Rabu, 02 April 2014

Part 5 كتاب : الزواجر عن اقتراف الكبائر المؤلف : أحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي

 Part 5

كتاب : الزواجر عن اقتراف الكبائر
المؤلف : أحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي

الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ } .
{ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إلَّا كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً } { مَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } : { أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ .
قَالَ : تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتُقْرِئُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ } .
{ أَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ .
قَالَ : كُلُّ شَيْءٍ .
خُلِقَ مِنْ الْمَاءِ ، فَقُلْت : أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ إذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ، قَالَ : أَطْعِمْ الطَّعَامَ وَأَفْشِ السَّلَامَ وَصِلْ الْأَرْحَامَ وَصَلِّ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلْ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ } .
{ اُعْبُدُوا الرَّحْمَنَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَأَفْشُوا السَّلَامَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ } ، { مِنْ مُوجِبَاتِ الرَّحْمَةِ إطْعَامُ الْمُسْلِمِ الْمِسْكِينِ } .
{ مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ حَتَّى يُشْبِعَهُ وَسَقَاهُ مِنْ الْمَاءِ حَتَّى يَرْوِيَهُ بَاعَدَهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ سَبْعَ خَنَادِقَ مَا بَيْنَ كُلِّ خَنْدَقَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ } .
{ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي .
قَالَ : كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّك لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُك فَلَمْ تُطْعِمْنِي .
قَالَ : يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَك عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّك لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي ؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُك فَلَمْ تَسْقِنِي .
قَالَ : يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَسْقِيك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : اسْتَسْقَاك عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّك لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي } .
{ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ وَعَلَيْك بِالْمَاءِ } .
{ يَا رَسُولَ اللَّهِ

أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : سَقْيُ الْمَاءِ } ، صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا .
{ مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّاءُ مِنْ جِنٍّ وَلَا إنْسٍ وَلَا طَائِرٍ إلَّا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ : " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ قُرْحَةٍ فِي رُكْبَتِهِ لَهَا سَبْعُ سِنِينَ وَقَدْ أَعْيَتْ الْأَطِبَّاءَ فَأَمَرَهُ بِحَفْرِ بِئْرٍ فِي مَحَلٍّ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى الْمَاءِ فِيهِ وَقَالَ لَهُ أَرْجُو أَنْ يَنْبُعَ فِيهِ عَيْنٌ فَيُمْسَكَ الدَّمُ عَنْك " .
وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ : أَنَّ شَيْخَهُ الْحَاكِمَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبَ الْمُسْتَدْرَكِ وَغَيْرِهِ أَنَّ وَجْهَهُ تَقَرَّحَ وَعَجَزَ فِي مُعَالَجَتِهِ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ ، فَسَأَلَ الْأُسْتَاذَ أَبَا عُثْمَانَ الصَّابُونِيَّ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فِي مَجْلِسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَدَعَا لَهُ فَأَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ التَّأْمِينِ ، فَفِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى أَلْقَتْ امْرَأَةٌ رُقْعَةً فِي الْمَجْلِسِ بِأَنَّهَا عَادَتْ لِبَيْتِهَا وَاجْتَهَدَتْ فِي الدُّعَاءِ لِلْحَاكِمِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَرَأَتْ فِي نَوْمِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ يَقُولُ : قُولُوا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يُوَسِّعُ الْمَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَجِئْت بِالرُّقْعَةِ إلَى الْحَاكِمِ فَأَمَرَ بِسِقَايَةٍ بُنِيَتْ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَحِينَ فَرَغُوا مِنْ بِنَائِهَا أَمَرَ بِصَبِّ الْمَاءِ فِيهَا وَطَرْحِ الْجَمَدِ فِي الْمَاءِ ، وَأَخَذَ النَّاسُ فِي الشُّرْبِ فَمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُسْبُوعٌ حَتَّى ظَهَرَ الشِّفَاءُ وَزَالَتْ تِلْكَ الْقُرُوحُ وَعَادَ وَجْهُهُ إلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ سِنِينَ " .
وَرَوَى الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ : { سَبْعٌ تَجْرِي لِلْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ : مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا أَوْ أَجْرَى نَهْرًا ، أَيْ حَفَرَهُ ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا ، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا ، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا ، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا ، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا صَالِحًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ

مَوْضِعَ حَفْرِ الْبِئْرِ وَغَرْسِ النَّخْلِ الصَّدَقَةَ وَبَيْتَ ابْنِ السَّبِيلِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ لَكِنْ اُعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا : أَنَّ { سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ الْمَاءُ فَحَفَرَ بِئْرًا وَقَالَ هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ } .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ { لَيْسَ صَدَقَةٌ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ الْمَاءِ } أَيْ فِي مَحَلِّ الِاحْتِيَاجِ فِيهِ لِلْمَاءِ أَكْثَرَ مِنْهُ لِغَيْرِهِ أَخْذًا مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ ، فَإِنْ كَانَ الِاحْتِيَاجُ لِغَيْرِ الْمَاءِ أَكْثَرَ فَهُوَ الْأَفْضَلُ .

( الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ تَرْكُ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ ، وَالْإِفْطَارُ فِيهِ بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ مِنْ نَحْوِ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ ) أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا وَقَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ : { عُرَى الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدُ الدِّينِ ثَلَاثَةٌ عَلَيْهِنَّ اُبْتُنِيَ الْإِسْلَامُ مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَهُوَ بِهَا كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً فَهُوَ بِاَللَّهِ كَافِرٌ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَقَدْ حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ وَإِنْ صَامَهُ } .
وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا غَيْرَ مَجْزُومٍ بِهِ فَقَالَ : وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفْعُهُ : { مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صَوْمُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ } .
وَأَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْخَبَرِ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَقَالَا : " إنَّ مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَا يَقْضِيهِ صَوْمُ الدَّهْرِ " ، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إسْنَادُهُ غَرِيبٌ وَإِنْ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد ، وَبَالَغَ النَّخَعِيُّ فَأَوْجَبَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أُفْطِرَ مِنْ رَمَضَانَ ثَلَاثَةَ آلَافِ يَوْمٍ ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : يَجِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، وَقَالَ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : يَجِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا .
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ الْيَوْمِ يَوْمٌ وَلَوْ

أَقْصَرَ مِنْهُ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا : { بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَتَانِي رَجُلَانِ فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعِرًا ، فَقَالَا : اصْعَدْ ، فَقُلْت : إنِّي لَا أُطِيقُهُ ، فَقَالَا : إنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَك ، فَصَعِدْت حَتَّى إذَا كُنْت فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ ، فَقُلْت : مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ ؟ قَالُوا : هَذِهِ عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ ، ثُمَّ اُنْطُلِقَ بِي فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ مُشَقَّقَةً أَشْدَاقُهُمْ دَمًا ، قُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ } ، الْحَدِيثَ : أَيْ قَبْلَ تَحَقُّقِ دُخُولِ وَقْتِهِ .
وَأَحْمَدُ مُرْسَلًا : { أَرْبَعٌ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ أَتَى بِثَلَاثَةٍ لَمْ يُغْنِينَ عَنْهُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهِنَّ جَمِيعًا ، الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ } .
وَالدَّارَقُطْنِيُّ : { مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ فِي الْحَضَرِ فَلْيُهْدِ بَدَنَةً } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذُكِرَ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْته .
وَظَاهِرٌ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ تَرْكُ وَاجِبٍ مُضَيَّقٍ مِنْ نَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ ، فَيَكُونُ كَبِيرَةً كَالْإِفْطَارِ مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَظَاهِرٌ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ حِكْمَةَ كَثْرَةِ مَا جَاءَ مِنْ الْوَعِيدِ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ دُونَ الصَّوْمِ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ كَسَلًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إلَّا الْفَذُّ النَّادِرُ ، بِخِلَافِ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ فِي النَّاسِ بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ يَتَهَاوَنُونَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَمَعَ ذَلِكَ يُثَابِرُونَ عَلَى الصَّوْمِ ، وَمِنْ ثَمَّ تَجِدُ كَثِيرِينَ يَصُومُونَ وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ وَكَثِيرِينَ لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي رَمَضَانَ دُونَ غَيْرِهِ .

( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ تَأْخِيرُ قَضَاءِ مَا تَعَدَّى بِفِطْرِهِ مِنْ رَمَضَانَ ) وَعَدُّ هَذَا كَبِيرَةً وَإِنْ لَمْ أَرَهُ إلَّا أَنَّهُ ظَاهِرٌ ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ إذَا تَعَدَّى بِالْإِفْطَارِ يَكُونُ فَاسِقًا فَتَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ فَوْرًا خُرُوجًا مِنْ الْفِسْقِ ، وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إلَّا بِالْقَضَاءِ فَإِذَا أَخَّرَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَانَ مُتَمَادِيًا فِي الْفِسْقِ ، وَالتَّمَادِي فِي الْفِسْقِ فِسْقٌ ، فَاتَّضَحَ أَنَّ التَّأْخِيرَ هُنَا فِسْقٌ فَتَأَمَّلْهُ ، وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي كُلِّ وَاجِبٍ تَرَكَهُ تَعَدِّيًا وَأَخَّرَ قَضَاءَهُ كَفَرْضِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ الَّذِي أَفْسَدَهُ ، وَلَا يَبْعُدُ جَرَيَانُ ذَلِكَ أَيْضًا فِيمَا لَوْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ إلَى رَمَضَانَ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَفْطَرَ لِعُذْرٍ لِأَنَّهُ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ قُرْبَ رَمَضَانَ .
ثُمَّ رَأَيْت الْهَرَوِيَّ - مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِنَا - صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ [ أَدَبِ الْقَضَاءِ ] بِمَا ذَكَرْته وَهُوَ أَنَّ تَرْكَ الْفَرَائِضِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ كَبِيرَةٌ .

الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ صَوْمُ الْمَرْأَةِ غَيْرَ مَا وَجَبَ فَوْرًا وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ بِغَيْرِ رِضَاهُ ) أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } .
زَادَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { إلَّا رَمَضَانَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : { لَا تَصُمْ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ إلَّا بِإِذْنِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِيهِ نَكَارَةٌ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَأَرَادَهَا عَلَى شَيْءٍ فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا مِنْ الْكَبَائِرِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ خَبَرًا فِيهِ : { وَمِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ أَنْ لَا تَصُومَ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِهِ ، فَإِنْ فَعَلَتْ جَاعَتْ وَعَطِشَتْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً وَإِنْ لَمْ أَرَهُ ، لَكِنَّهُ صَرِيحُ الْحَدِيثِ الثَّالِثِ ، وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنْ لَا يُحْتَجَّ بِهِ لِمَا ذُكِرَ فَيُؤْخَذُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً مِنْ أَمْرٍ آخَرَ أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ إيذَاؤُهُ بِالتَّسَبُّبِ إلَى مَنْعِهِ مِنْ حَقِّهِ الْمُقَدَّمِ عَلَى الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ ، وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّهُ يُمْكِنُهُ شَرْعًا أَنْ يَطَأَهَا ، وَالْإِثْمُ عَلَيْهَا إنْ كَانَ فَرْضًا ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَهَابُ إبْطَالَ الْعِبَادَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَإِذَا هَابَهَا امْتَنَعَ مِنْ وَطْئِهَا وَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ فَيَحْصُلُ لَهُ الضَّرَرُ الشَّدِيدُ غَالِبًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ضَرَرَ الْغَيْرِ الشَّدِيدَ بِمَنْعِهِ لِحَقِّهِ أَوْ التَّسَبُّبِ فِيمَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ يَكُونُ كَبِيرَةً ، فَاتُّجِهَ مَا ذَكَرْته ، وَالْحَدِيثُ حِينَئِذٍ إنَّمَا هُوَ عَاضِدٌ فَقَطْ .

صَوْمُ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ) أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ : { يَوْمُ الْفِطْرِ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى } .
وَمُسْلِمٌ : { لَا يَصْلُحُ الصِّيَامُ فِي يَوْمَيْنِ : يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ } .
وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ : { لَا تَصُومُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ } .
تَنْبِيهٌ : الْأَخْبَارُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فَعَدُّهُ كَبِيرَةً مُحْتَمَلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ بِهِ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِعِبَادِهِ .

( خَاتِمَةٌ فِي سَرْدِ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ أَوْ حَسَنَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ ) وَقَدْ أَلَّفْت فِيهِ كِتَابًا حَافِلًا سَمَّيْته [ إتْحَافَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِخُصُوصِيَّاتِ الصِّيَامِ ] .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ خُلَاصَتِهِ .
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ : أَيْ وِقَايَةٌ مِنْ النَّارِ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ } أَيْ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ { إنِّي صَائِمٌ .
وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } .
{ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ ، أَيْ طَبْعًا أَوْ لِإِتْمَامِهِ هَذِهِ الْعِبَادَةَ الْعَظِيمَةَ الْفَضْلِ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ } أَيْ لِعَظِيمِ مَا يَلْقَى مِنْ ثَوَابِهِ ، وَمِنْ ثَمَّ أَضَافَهُ - تَعَالَى - إلَيْهِ إعْلَامًا بِأَنَّهُ لَا يُحْصِي ثَوَابَهُ غَيْرُهُ .
{ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ .
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي } .
{ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ } : أَيْ تَغَيُّرُ رِيحِهِ مِنْ الصَّوْمِ { أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } .
{ إنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ : يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ أَبَدًا ، مَنْ دَخَلَ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا } .
{ اُغْزُوا تَغْنَمُوا ، وَصُومُوا تَصِحُّوا ، وَسَافِرُوا تَسْتَغْنُوا } .
{ الصِّيَامُ جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنْ النَّارِ } .
{ الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
يَقُولُ الصِّيَامُ أَيْ رَبِّ مَنَعْته الطَّعَامَ وَالشَّهْوَةَ فَشَفِّعْنِي فِيهِ ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ

مَنَعْته النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ ، قَالَ فَيَشْفَعَانِ } .
{ عَلَيْك بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ } .
{ مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى - إلَّا بَاعَدَ اللَّهُ الْيَوْمَ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا } .
{ مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ .
} { مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعُدَتْ مِنْهُ النَّارُ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ } .
وَخُصَّ طَوَائِفُ سَبِيلِ اللَّهِ هُنَا بِالْجِهَادِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : الْمُرَادُ بِهِ خُلُوصُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - : { ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ : الصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ } ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : { حَتَّى يُفْطِرَ ، وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ ؛ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ : وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ } .
{ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا } أَيْ تَصْدِيقًا { وَرَغْبَةً فِي ثَوَابِهِ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ طَالِبًا لِوَجْهِ اللَّهِ وَعَظِيمِ مَا عِنْدَهُ ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : { وَمَا تَأَخَّرَ } ، وَذَكَرَهَا أَحْمَدُ بَعْدَ الصَّوْمِ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ إلَّا أَنَّ حَمَّادًا شَكَّ فِي وَصْلِهِ أَوْ إرْسَالِهِ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَحَفِظَ حُدُودَهُ وَتَحَفَّظَ مِمَّا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْهُ كَفَّرَ مَا قَبْلَهُ } .
{ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } .
{ اُحْضُرُوا الْمِنْبَرَ فَحَضَرْنَا ، فَلَمَّا ارْتَقَى دَرَجَةً قَالَ آمِينَ فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّانِيَةَ قَالَ آمِينَ ، فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ قَالَ آمِينَ ، فَلَمَّا نَزَلَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْك الْيَوْمَ شَيْئًا مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ ،

قَالَ : إنَّ جِبْرِيلَ عَرَضَ لِي فَقَالَ : بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ ، قُلْت آمِينَ ، فَلَمَّا رَقَيْتُ الثَّانِيَةَ قَالَ : بَعُدَ مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْك ، قُلْت آمِينَ ، فَلَمَّا رَقَيْتُ الثَّالِثَةَ قَالَ : بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَهُ الْكِبَرُ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ قُلْت آمِينَ } .
{ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ مُبَارَكٌ شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، شَهْرٌ جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً ، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا ، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ ، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ ، وَشَهْرُ يُزَادُ فِي رِزْقِ الْمُؤْمِنِ فِيهِ ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ ، وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنْ النَّارِ ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ كُلُّنَا يَجِدُ مَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ أَوْ مَذْقَةِ لَبَنٍ ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنْ النَّارِ ، مَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ فِيهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَعْتَقَهُ مِنْ النَّارِ ، وَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ : خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ وَخَصْلَتَيْنِ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا ، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ : فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَتَسْتَغْفِرُونَهُ ، وَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا : فَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَتَعَوَّذُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ ، وَمَنْ سَقَى صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ

مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا } ، وَفِي سَنَدِهِ مَنْ صَحَّحَ ، وَحَسَّنَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ ، لَكِنْ ضَعَّفَهُ غَيْرُهُ ، وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ إنْ صَحَّ .
وَفِي رِوَايَةٍ فِي سَنَدِهَا مَنْ ذُكِرَ : { مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ لَيَالِيَ رَمَضَانَ كُلَّهَا وَصَافَحَهُ جِبْرِيلُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، وَمَنْ صَافَحَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرِقُّ قَلْبُهُ وَتَكْثُرُ دُمُوعُهُ } { إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ ، وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ ، أَيْ شُدَّتْ بِالْأَغْلَالِ فَلَا يَبْلُغُونَ فِيهِ مِنْ الْإِفْسَادِ مَا يَبْلُغُونَهُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ } ، وَفِي أُخْرَى : { مَرَدَةُ الْجِنِّ } .
{ إذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَانِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَاحِدٌ الشَّهْرَ كُلَّهُ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَاحِدٌ الشَّهْرَ كُلَّهُ ، وَغُلَّتْ عُتَاةُ الْجِنِّ ، وَنَادَى مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى انْفِجَارِ الصُّبْحِ : يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ تَمِّمْ وَأَبْشِرْ ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَأَبْصِرْ ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ ، هَلْ مِنْ تَائِبٍ يُتَابُ عَلَيْهِ ، هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى سُؤَالَهُ ؟ وَلِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ سِتُّونَ أَلْفًا ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ أَعْتَقَ اللَّهُ مِثْلَ مَا أَعْتَقَ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ ثَلَاثِينَ مَرَّةً سِتِّينَ أَلْفًا } .

الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ ) تَرْكُ الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ الْمُضَيِّقِ وَإِبْطَالُهُ بِنَحْوِ جِمَاعٍ ، وَالْجِمَاعُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ مُعْتَكِفٍ .
وَعَدِّي لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَبَائِرَ غَيْرُ بَعِيدٍ ؛ أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَقِيَاسًا عَلَى مَا مَرَّ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِجَامِعِ الْوُجُوبِ وَالتَّضْيِيقِ ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِمَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ الشَّدِيدِ الْمُنْبِئِ عَنْ قِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهِ بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ ، لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ مُنَزَّهَةٌ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ تَلْطِيخَهَا بِالْقَذَرِ كُفْرٌ ، فَالْجِمَاعُ فِيهَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً لِأَنَّ فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهَا مَا يَقْرُبُ مِنْ تَلْطِيخِهَا بِالْقَذَرِ .

الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : تَرْكُ الْحَجِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ ) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ ، وَكَلَامُ النَّاسِ فِي الْحَارِثِ مَشْهُورٌ كَذَّبَهُ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ ، وَقَالَ أَيُّوبُ : كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَرَى أَنَّ عَامَّةَ مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَاطِلٌ .
وَاخْتَلَفَ فِيهِ رَأْيُ ابْنِ مَعِينٍ ، وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فَضَعَّفُوهُ تَارَةً وَوَثَّقُوهُ أُخْرَى ، وَمَيْلُ النَّسَائِيُّ إلَى تَوْثِيقِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ وَتَقْوِيَةِ أَمْرِهِ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ انْتَهَى .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ، نَعَمْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ : { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ لَهُ جِدَةٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَضْرِبُوا عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ } ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ وَمِنْ ثَمَّ أَفْتَيْت بِأَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَابِطٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ لَمْ تَحْبِسْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا } .
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ : { الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ : الْإِسْلَامُ أَيْ كَلِمَتُهُ سَهْمٌ

، وَالصَّلَاةُ سَهْمٌ ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ ، وَالصَّوْمُ سَهْمٌ ، وَحَجُّ الْبَيْتِ سَهْمٌ ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَهْمٌ ، وَقَدْ خَابَ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ } .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إنَّ عَبْدًا صَحَّحْت لَهُ جِسْمَهُ ، وَوَسَّعْت عَلَيْهِ فِي الْمَعِيشَةِ تَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَا يَغْدُو عَلَيَّ لَمَحْرُومٌ } رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ : أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا : كَانَ حَسَنُ بْنُ حَيٍّ يُعْجِبُهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَبِهِ يَأْخُذُ وَيُحِبُّ لِلرَّجُلِ الْمُوسِرِ الصَّحِيحِ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْحَجَّ خَمْسَ سِنِينَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا مَرَّ عَنْهُ : مَا مَنْ أَحَدٍ لَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ إلَّا سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَقِيلَ لَهُ : إنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ ، وَقَالَ : وَإِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ } : أَيْ أُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ { وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ } أَيْ أَحُجُّ .
وَجَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَالَ : مَاتَ لِي جَارٌ مُوسِرٌ لَمْ يَحُجَّ فَلَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذُكِرَ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ وَدَلِيلُهُ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ ، فَإِنْ قُلْت : هُوَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْفِسْقِ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَمَا فَائِدَتُهُ ؟ قُلْت : أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرَةِ ، فَوَاضِحٌ ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا ، فَلَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا : أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ مَوْتُهُ فَاسِقًا مِنْ آخِرِ سِنِي الْإِمْكَانِ ، وَحِينَئِذٍ فَمَا كَانَ شَهِدَ بِهِ أَوْ قَضَى فِيهِ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُهُ وَكَذَلِكَ تَزْوِيجُ مُوَلِّيَتِهِ ، وَكُلُّ مَا

الْعَدَالَةُ شَرْطٌ فِيهِ ، إذْ فِعْلُهُ فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ يَتَبَيَّنُ بِمَوْتِهِ بُطْلَانُهُ ، وَهَذِهِ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ يُحْتَاجُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا .
( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْجِمَاعُ وَهُوَ إيلَاجُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا وَلَوْ مِنْ ذَكَرٍ مُبَانٍ فِي فَرْجٍ وَلَوْ لِبَهِيمَةٍ مِنْ عَامِدٍ عَالِمٍ مُخْتَارٍ فِي الْحَجِّ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ تَحَلُّلِهَا ) وَهَذَا وَإِنْ لَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْوَعِيدِ وَلَمْ أَرَ مَنْ عَدَّهُ كَبِيرَةً ، إلَّا أَنَّ قِيَاسَ جَعْلِهِمْ إفْسَادَ الصَّوْمِ كَبِيرَةً بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ إفْسَادُ النُّسُكِ بِالْجِمَاعِ كَذَلِكَ ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الصَّائِمَ إذَا أَفْسَدَ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَ الْإِثْمِ وَالْقَضَاءِ ، وَهُنَا عَلَيْهِ مَعَ الْإِثْمِ وَالْقَضَاءِ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ وَالْكَفَّارَةُ ، وَهِيَ ذَبْحُ بَدَنَةٍ مِنْ الْإِبِلِ ثَنِيَّةٍ وَهِيَ مَا لَهَا خَمْسُ سِنِينَ كَامِلَةٍ ، فَإِنْ عَجَزَ فَثَنِيَّةُ بَقَرٍ ، وَهِيَ مَا لَهَا سَنَتَانِ كَامِلَتَانِ ، فَإِنْ عَجَزَ فَسَبْعٌ مِنْ الْغَنَمِ الْجَذَعَةِ لَهَا سَنَةٌ ، وَالثَّنِيَّةُ لَهَا سَنَتَانِ ، فَإِنْ عَجَزَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الْبَدَنَةِ طَعَامًا يُجْزِئُ فِي الْفِطْرَةِ وَتَصَدَّقَ بِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا وَتَمَّمَ الْمُنْكَسِرَ ، وَصَوْمُهُ فِي الْحَرَمِ أَوْلَى .
( الْكَبِيرَةُ الْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : قَتْلُ الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ صَيْدًا مَأْكُولًا وَحْشِيًّا وَإِنْ تَأَنَّسَ بَرِّيًّا أَوْ فِي أَحَدٍ مِنْ أُصُولِهِ مَا هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ عَامِدًا عَالِمًا مُخْتَارًا ) قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذُكِرَ كَبِيرَةً هُوَ صَرِيحُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبِهِ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا هُنَا أَنَّ مَنْ قَتَلَ صَيْدًا كَذَلِكَ يَكُونُ فَاسِقًا ، لِأَنَّهُ قَتَلَ حَيَوَانًا مُحْتَرَمًا بِلَا ضَرُورَةٍ ، وَفِيهِ كَلَامٌ بَسَطْته فِي حَاشِيَةِ الْإِيضَاحِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَقِيَّةَ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ لَيْسَتْ كَبَائِرَ ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ هَذَا كَبِيرَةٌ لَمْ يَلْحَظْ كَوْنَهُ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ ، وَإِنَّمَا لَحَظَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ قَتْلُ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ بِلَا ضَرُورَةٍ ، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ إيذَاءَ الْمُحْرِمِ لَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِمَّا لَا يُحْتَمَلُ عَادَةً يَكُونُ كَبِيرَةً .

( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : إحْرَامُ الْحَلِيلَةِ بِتَطَوُّعِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْحَلِيلِ وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهَا ) وَعَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ قِيَاسُ مَا قَدَّمْته بَحْثًا أَيْضًا فِي صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا الْحَاضِرِ ، بَلْ هَذَا أَوْلَى لِطُولِ زَمَنِهِ وَاحْتِيَاجِهَا فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ إلَى سَفَرٍ وَنَوْعٍ مِنْ الْهَتْكِ .
( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : اسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ) أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ { أَنَّ رَجُلًا : قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : هُنَّ تِسْعٌ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَفِرَارٌ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، وَعَمَلُ السِّحْرِ ، وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } .
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ { الْكَبَائِرُ تِسْعٌ أَعْظَمُهُنَّ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ نَفْسِ مُؤْمِنٍ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ } .

( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْإِلْحَادُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } نَزَلَتْ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ { بَعَثَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرِيًّا وَأَنْصَارِيًّا فَافْتَخَرُوا فِي الْأَنْسَابِ فَغَضِبَ ابْنُ أُنَيْسٍ ، فَقَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ ثُمَّ ارْتَدَّ وَهَرَبَ إلَى مَكَّةَ } وَالْإِلْحَادُ الْعُدُولُ عَنْ الْقَصْدِ .
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ ، فَقِيلَ : " إنَّهُ الشِّرْكُ " وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " هُوَ أَنْ تَقْتُلَ فِيهِ مَنْ لَا يَقْتُلُك أَوْ تَظْلِمَ مِنْ لَا يَظْلِمُك " .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ : " هُوَ أَنْ تَسْتَحِلَّ مِنْ الْحَرَامِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ لِسَانٍ أَوْ قَتْلٍ فَتَظْلِمَ مَنْ لَا يَظْلِمُكَ وَتَقْتُلَ مَنْ لَا يَقْتُلُك ، فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ " .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ " بِظُلْمٍ تَعْمَلُ فِيهِ عَمَلًا سَيِّئًا " ، فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ قَوْلِ أُسْتَاذِهِ ، وَعَنْهُ الْإِلْحَادُ فِيهِ ، لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَجُنْدُبُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ : هُوَ احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ : بَيْعُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ أَيْ بَعْدَ احْتِكَارِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ إلْحَادٌ ، وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَبَعًا لِلرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أُسْتَاذِهِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا : " شَتْمُ الْخَادِمِ ظُلْمٌ فَمَا فَوْقَهُ " ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : " إنَّ الظُّلْمَ فِي الْآيَةِ تِجَارَةُ الْأَمِيرِ فِيهِ " .
وَعَنْ عَطَاءٍ " هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي الْمُبَايَعَةِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ " .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " أَنَّهُ كَانَ

لَهُ فُسْطَاطَانِ أَحَدُهُمَا فِي الْحِلِّ ، وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاتِبَ أَهْلَهُ عَاتَبَهُمْ فِي الْحِلِّ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ مِنْ الْإِلْحَادِ فِيهِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِأَهْلِهِ كَلًّا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ " .
وَعَنْ عَطَاءٍ " هُوَ دُخُولُ الْحَرَمِ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَارْتِكَابُ شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ مِنْ قَتْلِ صَيْدٍ أَوْ قَطْعٍ شَجَرٍ " .
وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ بِظُلْمٍ بَيَانُ أَنَّ الْإِلْحَادَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَصْلَ مَعْنَاهُ وَهُوَ مُطْلَقُ الْمَيْلِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ إلَى حَقٍّ وَإِلَى بَاطِلٍ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْمَيْلُ الْمُتَلَبِّسُ بِالظُّلْمِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْلَ الظُّلْمِ يَشْمَلُ سَائِرَ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ ، إذَا لَا مَعْصِيَةَ وَإِنْ صَغُرَتْ إلَّا وَهِيَ ظُلْمٌ ، إذْ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } فَخَرَجَ بِعَظِيمٍ غَيْرُ الشِّرْكِ ، فَهُوَ ظُلْمٌ ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِعَظِيمٍ كَالشِّرْكِ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُ : { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } بَيَانٌ لِلْوَعِيدِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْإِلْحَادِ الْمَذْكُورِ ، وَأَخَذَ مِنْ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ قَوْلَهُ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا : إنَّ السَّيِّئَاتِ تُضَاعَفُ فِي مَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ فِيهَا ، وَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُضَاعَفَةِ زِيَادَةُ قُبْحِهَا وَعَذَابِهَا لَا الْمُضَاعَفَةُ الْمَزَادَةُ فِي الْحَسَنَاتِ ، لِأَنَّ النُّصُوصَ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ السَّيِّئَةَ لَا جَزَاءَ عَلَيْهَا إلَّا مِثْلُهَا مُتَعَيِّنٌ ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ الْقَوْلُ بِحَقِيقَةِ الْمُضَاعَفَةِ ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ النُّصُوصِ لِدَلِيلٍ قَامَ عِنْدَهُمْ عَلَى اسْتِثْنَائِهِ .
وَلَوْلَا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِحَقِيقَةِ الْمُضَاعَفَةِ وَإِلَّا لَمْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لِلْجُمْهُورِ ، إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ بِمَكَّةَ أَقْبَحُ مِنْهَا بِغَيْرِهَا .
وَدَلِيلُ أَنَّ

الْإِرَادَةَ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ لِلْحَرَمِ مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا لَكِنَّ وَقْفَهُ أَشْبَهُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قَالَ : { لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ } وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْهُ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُهِمُّ بِسَيِّئَةٍ إلَّا كُتِبَتْ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بِعَدَنِ أَبْيَنَ هَمَّ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا بِهَذَا الْبَيْتِ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ .
تَنْبِيهٌ : ذِكْرِي الِاسْتِحْلَالَ وَالْإِلْحَادَ كَبِيرَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ هُوَ مَا فِي حَدِيثَيْنِ ، أَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُئِلَ عَنْ الْكَبَائِرِ ، فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { هُنَّ تِسْعٌ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَالسِّحْرُ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، وَالْإِلْحَادُ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } .
وَجَاءَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، فَالْمَرْفُوعُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَوْقُوفِ ، فَتَعْبِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِحْلَالِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ ، وَبِالْإِلْحَادِ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِمَا وَاحِدًا هُوَ مَا فِي الْآيَةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَوَّلِ اسْتِحْلَالَ حِرْصِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْحَرَمِ ، وَبِالثَّانِي وُقُوعَ مَعْصِيَةٍ مِنْهُ فِيهِ ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ كَبِيرَةٌ أَشَارَ إلَيْهِ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ ، وَصَرَّحَ بِهِ غَيْرُهُ فَقَالَ : أَعْنِي الْجَلَالَ وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَسْطُرٍ : وَالْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ فَقَالَ : الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ الْإِلْحَادُ فِي الْبَيْتِ

الْحَرَامِ وَلَوْ بِالْإِرَادَةِ ، قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } انْتَهَى .
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْأَخْذَ بِإِطْلَاقِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ فِي حَرَمِ مَكَّةَ كَبِيرَةٌ مَا مَرَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : " أَنَّ الظُّلْمَ يَشْمَلُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ " ، وَمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ فِي شَتْمِ الْخَادِمِ وَمَا فَوْقَهُ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ مِنْ أَنَّ : " لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ ، أَيْ الْحَلِفُ الْكَاذِبُ مِنْ الْإِلْحَادِ " .
وَعَنْ عَطَاءٍ مِنْ أَنَّ مِنْهُ دُخُولَ الْحَرَمِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَمَا سَبَقَ مَعَهُ ، وَقَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ تَبَعًا لِمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ { بِظُلْمٍ } هُوَ كَشَتْمِ الْخَادِمِ ، وَمِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الدَّلَالَةِ لِمَا ذُكِرَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ إلْحَادٌ } ، وَرِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إلْحَادٌ } ، إذْ ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ جُزْئِيَّاتِ الْإِلْحَادِ ، فَلَا يَخْتَصُّ بِاحْتِكَارِ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ ، بَلْ يَعُمُّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ بِهَا ، وَلَوْ بِالْإِرَادَةِ .
ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ لَمَّا ذَكَرَ أَكْثَرَ الْآثَارِ السَّابِقَةِ ، قَالَ : وَهَذِهِ الْآثَارُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْإِلْحَادِ ، وَلَكِنْ هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هِيَ مُنَبِّهَةٌ عَلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهَا ، وَلِهَذَا لَمَّا هَمَّ أَصْحَابُ الْفِيلِ بِتَخْرِيبِ الْبَيْتِ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ : أَيْ دَمَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِمَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ ، وَسَيَأْتِي فِي

الْجَيْشِ الَّذِي يَغْزُوهَا أَنَّ الْأَرْضَ تُخْسَفُ بِهِمْ .
وَرَوَى أَحْمَدُ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ : إيَّاكَ وَالْإِلْحَادَ فِي حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّهُ سَيُلْحِدُ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَوْ تُوزَنُ ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَرَجَحَتْ ، فَلْتَنْظُرْ لَا تَكُنْهُ } .
وَأُخْرِجَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ أَتَى ابْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ فِي الْحِجْرِ فَقَالَ : يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ إيَّاكَ وَالْإِلْحَادَ فِي الْحَرَمِ ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " وَذَكَرَ نَحْوَ مَا مَرَّ " وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ الصَّغَائِرُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ كَبَائِرَ فِيهَا بِمَعْنَى شِدَّةِ عِقَابِهَا الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْمَحَلُّ ، لَا مِنْ حَيْثُ ذَوَاتُهَا ، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَتْ كَبَائِرَ مُوجِبَةً لِلْفِسْقِ وَالْقَدْحِ فِي الْعَدَالَةِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِعُمُومِهِ .
وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بِأَهْلِ الْحَرَمِ عَدْلٌ لِتَعَذُّرِ الصَّوْنِ عَنْ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ وَصَغَائِرِهَا ، وَلِلْإِجْمَاعِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى عَدَالَتِهِمْ مَعَ الْعِلْمِ بِارْتِكَابِهِمْ الصَّغَائِرَ ، إذْ لَا عِصْمَةَ وَلَا حِفْظَ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ عَدِّ ذَلِكَ كَبِيرَةً عَلَى مَا ذَكَرْته ، لِأَنَّ مَنْ عَدَّهُ كَبِيرَةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ فِعْلَ كَبِيرَةٍ بِالْحَرَمِ ، لِأَنَّ هَذَا فِسْقٌ وَكَبِيرَةٌ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، فَأَيُّ مَزِيَّةٍ لِلْحَرَمِ حِينَئِذٍ ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ الصَّغَائِرَ بِغَيْرِ مَكَّةَ كَبَائِرُ فِيهَا ، وَهَذَا مُسْتَحِيلُ الظَّاهِرِ لِمَا عَلِمْت فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ .
فَإِنْ قُلْت : كَيْفَ وَحَدُّ الْكَبِيرَةِ بِأَنَّهَا مَا جَاءَ فِيهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَشْمَلُ الصَّغِيرَةَ الْمَفْعُولَةَ فِي الْحَرَمِ ؟ قُلْت : لَا يَبْعُدُ حَمْلُ الْحَدِّ أَيْضًا عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ الْوَعِيدُ عَلَى قُبْحِهِ مِنْ حَيْثُ

ذَاتُهُ لَا مِنْ حَيْثُ شَرَفُ مَحَلِّهِ .
وَاَلَّذِي اضْطَرَّنَا إلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى التَّأْوِيلِ .
وَمِمَّا يُعْلِمُك بِشِدَّةِ قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ ثَمَّ وَتَعْجِيلِ عِقَابِهَا وَلَوْ صَغِيرَةً أَنَّ بَعْضَ الطَّائِفِينَ نَظَرَ إلَى أَمْرَدَ أَوْ امْرَأَةٍ فَسَالَتْ عَيْنُهُ عَلَى خَدِّهِ ، وَبَعْضُهُمْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى يَدِ امْرَأَةٍ فَالْتَصَقَتَا وَعَجَزَ النَّاسُ عَنْ فَكِّهِمَا ، حَتَّى دَلَّهُمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمَا لَا يَرْجِعَانِ إلَى مَعْصِيَتِهِمَا ، وَيَبْتَهِلَانِ إلَى اللَّهِ ، وَيَصْدُقَانِ فِي التَّوْبَةِ ، فَفَعَلَا ذَلِكَ ، فَفَرَّجَ عَنْهُمَا .
وَقِصَّةُ إسَافٍ وَنَائِلَةٍ مَشْهُورَةٌ وَهِيَ أَنَّهُمَا زَنَيَا فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ حَجَرَيْنِ ، وَلَا يَغُرَّنَّك أَنَّك تَرَى مَنْ يَعْصِي ثُمَّ يَنْظُرُ أَوْ غَيْرُهُ وَلَا يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَرِّرَ بِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ الْمُغِرُّ لِنَفْسِهِ بِمَحْمُودٍ وَإِنْ سَلِمَ ، وَرُبَّمَا عَجَّلَ اللَّهُ لَك الْعُقُوبَةَ دُونَ غَيْرِك ، فَإِنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ تَعَالَى ، عَلَى أَنَّ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ قَدْ يَكُونُ بِمَا هُوَ أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ ، وَهُوَ مَسْخُ الْقَلْبِ ، وَبُعْدُهُ عَنْ حَضْرَةِ الْحَقِّ وَغَوَايَتُهُ بَعْدَ هِدَايَتِهِ وَإِعْرَاضُهُ بَعْدَ إقْبَالِهِ .
وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ مَنْ نَعْرِفُهُ وَكَانَ عَلَى هَيْئَةٍ جَمِيلَةٍ وَفَضْلٍ تَامٍّ وَتَصَوُّنٍ بَالِغٍ ، أَنَّهُ زَلَّ فَقَبَّلَ امْرَأَةً عِنْدَ الْحِجْرِ عَلَى مَا حُكِيَ ، لَكِنْ ظَهَرَتْ آثَارُ صِدْقِ تِلْكَ الْحِكَايَةِ فَمُسِخَ مَسْخًا كُلِّيًّا .
وَصَارَ بِأَرَثِّ هَيْئَةٍ وَأَقْبَحِ مَنْظَرٍ وَأَفْظَعِ حَالَةٍ بَدَنًا وَدُنْيَا وَعَقْلًا وَكَلَامًا ؛ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ الزَّلَّاتِ ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَعْصِمَنَا مِنْ الْفِتَنِ إلَى الْمَمَاتِ ، إنَّهُ أَكْرَمُ كَرِيمٍ وَأَرْحَمُ رَحِيمٍ .
وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ أَعْرِفُ أَيْضًا أَنَّهُ وَقَعَتْ مِنْهُ هَنَاتٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَعُوجِلَ عَلَيْهَا بِعِقَابٍ شَدِيدٍ فِي بَدَنِهِ وَدِينِهِ أَيْضًا .

وَكَذَا وَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ بَلَغْنَا ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي زَمَنِنَا ، وَلَوْلَا ضِيقُ الْمَقَامِ وَخَوْفُ الْفَضِيحَةِ وَطَلَبُ السَّتْرِ بَسَطْت أَحْوَالَهُمْ ، وَلَكِنْ فِي الْإِشَارَةِ مَا يُغْنِي عَنْ الْعِبَارَةِ ، وَإِنَّمَا قَصَدْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا اغْتَرَّ ، فَظَنَّ مِمَّا يَرَى مِنْ عَدَمِ تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ لَا يُعَاجَلُ بِشَيْءٍ وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ، بَلْ لَا بُدَّ لِمَنْ تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ أَوْ قَدِمَ عَلَيْهِ آمِنًا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةُ الظَّاهِرَةُ أَوْ الْبَاطِنَةُ ، هَذَا قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي أَشَارَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى عَظَمَتِهِ ، بَلَى وَإِلَى عَظَمَةِ عَذَابِ الدُّنْيَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } .
( خَاتِمَةٌ : فِي أُمُورٍ مُشِيرَةٍ إلَى بَعْضِ فَضَائِلِ الْحَرَمِ وَمَا فِيهِ وَمَنْ فِيهِ ) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ : { إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَنْزِلُ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ ، يَعْنِي مَسْجِدَ مَكَّةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرِينَ وَمِائَةِ رَحْمَةٍ ، سِتِّينَ لِلطَّائِفِينَ وَأَرْبَعِينَ لِلْمُصَلِّينَ ، وَعِشْرِينَ لِلنَّاظِرِينَ } .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ، وَجَاءَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ ، كَمَا بَيَّنْته فِي حَاشِيَةِ الْإِيضَاحِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ بِمِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ غَيْرِ الْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ مِمَّا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ ، وَفِي حَدِيثِ : { بِأَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ } .
وَصَحَّ أَنَّ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ فِيهَا مَا ذُكِرَ ، فَإِذَا ضَرَبْت بَلَغَ الْحَاصِلُ مَا ذَكَرْته ، فَتَأَمَّلْ سَعَةَ هَذَا الْفَضْلِ ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ .
وَالطَّبَرَانِيُّ ، فِي الْأَوْسَطِ : { إنَّ لِلْكَعْبَةِ لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ، وَلَقَدْ اشْتَكَتْ فَقَالَتْ : يَا رَبِّ قَلَّ عُوَّادِي ، وَقَلَّ زُوَّارِي ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا خُشَّعًا سُجَّدًا يَحِنُّونَ إلَيْك كَمَا تَحِنُّ الْحَمَامَةُ إلَى بَيْضِهَا } .
وَالْبَزَّارُ : { رَمَضَانُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ وَقَامَ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ لَهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِيمَا سِوَاهَا ، وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ وَكُلِّ لَيْلَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ ، وَكُلِّ يَوْمٍ حُمْلَانَ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ حَسَنَةً ، وَفِي كُلِّ لَيْلَةٍ حَسَنَةً } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ ، لِأَنَّ

اللَّهَ تَعَالَى أَعْتَقَهُ مِنْ الْجَبَابِرَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ قَطُّ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَوَّلُ بُقْعَةٍ وُضِعَتْ فِي الْأَرْضِ الْبَيْتُ ثُمَّ مُدَّتْ مِنْهَا الْأَرْضُ ، وَإِنَّ أَوَّلَ جَبَلٍ وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَبُو قُبَيْسٍ ، ثُمَّ مُدَّتْ مِنْهُ الْجِبَالُ } .
وَالْأَرْبَعَةُ : { مَكَّةُ أُمُّ الْقُرَى } .
وَالدَّارَقُطْنِيُّ : { مَنْ أَكْرَمَ الْقِبْلَةَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا هَذِهِ الْحُرْمَةَ حَقَّ تَعْظِيمِهَا ، فَإِذَا ضَيَّعُوا ذَلِكَ هَلَكُوا } .
وَالشَّيْخُ : { النَّظَرُ إلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ، وَمَا بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً } ، الْحَدِيثَ .
وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ : { لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إلَّا سَيَطَؤُهَا الدَّجَّالُ إلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابِهَا إلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَافِّينَ تَحْرُسُهَا فَيَنْزِلُ بِالسَّبَخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ يَخْرُجُ إلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ : { مَا أَطْيَبَك مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّك إلَيَّ ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْك مَا سَكَنْت غَيْرَك } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ : { وَاَللَّهِ إنَّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَيَّ ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْت مِنْك مَا خَرَجْت } وَأَيْضًا : { لَا تُغْزَى مَكَّةُ بَعْدَ الْيَوْمِ ، أَيْ يَوْمِ الْفَتْحِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَمُسْلِمٌ : { لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْت بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلَتْ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ : أَيْ وَهُوَ شَاذَرْوَانُهُ ، وَسِتَّةُ أَذْرُعٍ أَوْ سَبْعَةُ مِنْ الْحِجْرِ وَأَلْزَقْتُهُ

أَيْ بَابَهُ بِالْأَرْضِ ، وَجَعَلْت لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْت بِهِ أَسَاسَ إبْرَاهِيمَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ زِيَادَةُ : { لَأَنْفَقَتْ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَفِي أُخْرَى : { أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا بَنَتْهُ اسْتَقْصَرَتْ : أَيْ النَّفَقَةُ بِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْنُوهُ إلَّا مِنْ مَالٍ مُتَيَقَّنِ الْحِلِّ فَأَعْوَزَهُمْ فَتَرَكُوا الشَّاذَرْوَانَ وَمِنْ الْحِجْرِ مَا ذُكِرَ وَقَلَّلُوا طُولَهَا فِي السَّمَاءِ ، وَسَدُّوا بَابَهَا الْغَرْبِيَّ وَرَفَعُوا بَابَهَا الشَّرْقِيَّ ، لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا } .
وَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ خَالَتِهِ عَائِشَةَ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ بَادَرَ لِهَدْمِهِ وَأَعَادَهُ عَلَى مَا فِيهِ ، ثُمَّ جَاءَ الْحَجَّاجُ فَأَزَالَ بِنَاءَهُ مِنْ نَاحِيَةِ الْحِجْرِ فَقَطْ وَجَعَلَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَسَدَّ الْبَابَ الْغَرْبِيَّ ، وَرَفَعَ الشَّرْقِيَّ .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ : { يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِأَوَّلِهِمْ وَآخَرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ فَيُبْعَثُ إلَيْهِ بَعْثٌ ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا ؟ قَالَ يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ } .
وَبَيَّنْت فِي كِتَابِي [ الدُّرَرُ فِي عَلَامَاتِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظِرِ ] : أَنَّهُ ذَلِكَ الْعَائِذُ ، وَأَنَّ تِلْكَ الْبَيْدَاءَ الْخَلِيفَةُ ، وَأَنَّهُ لَا يُخَصُّ مِنْهُمْ إلَّا اثْنَانِ أَوْ وَاحِدٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ : { فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ إلَّا الشَّرِيدُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ أَرْسَلُوا إلَى الْمَهْدِيِّ مِنْ الشَّامِ لِيَقْتُلُوهُ فَيَفِرَّ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ عَائِذًا بِهَا } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ : { كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى أَسْوَدَ أَفْحَجُ يَنْقُضُهَا حَجَرًا حَجَرًا ، يَعْنِي الْكَعْبَةَ } .
وَجَاءَ فِي

أَحَادِيثَ : { أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْ الْجَنَّةِ ، وَأَنَّهُ يُرْفَعُ بَيْنَمَا هُمْ يَطُوفُونَ بِهِ إذْ أَصْبَحُوا وَقَدْ فَقَدُوهُ ، وَأَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ يَشْهَدُ عَلَى مَنْ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ } ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْحَجَرِ : { أَنَّهُ يَشْهَدُ لِمَنْ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ، وَأَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ } ، سَنَدُهُ حَسَنٌ ، وَكَذَلِكَ سَنَدُ : { يَأْتِي الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ لَهُ لِسَانٌ وَشَفَتَانِ وَأَنَّهُ كَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنْ الثَّلْجِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أَهْلِ الشِّرْكِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إلَّا شُفِيَ } ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ : { وَأَنَّهُ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ فَوُضِعَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ كَأَنَّهُ مَهَاةٌ : أَيْ بِالْقَصْرِ بِلَّوْرَةٌ بَيْضَاءُ فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، ثُمَّ وُضِعَ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ } .
وَصَحَّ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ ، وَأَنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ ، أَيْ يُمْنُهُ وَبَرَكَتُهُ يُنَزِّلُهُمَا عَلَيْهِمْ إذَا اسْتَلَمُوهُ ، وَأَنَّهُ وَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ يَحُطَّانِ الْخَطَايَا حَطًّا ، وَأَنَّهُمَا يُبْعَثَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَهُمَا عَيْنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ يَشْهَدَانِ لِمَنْ اسْتَلَمَهُمَا بِالْوَفَاءِ ، وَأَنَّ عِنْدَهُ تُسْكَبُ الْعَبَرَاتِ ، وَأَنَّهُ وَالْمَقَامَ يَاقُوتُتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ ، فَرِوَايَةُ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ الْجَنَّةِ غَيْرُهُ مَخْصُوصَةٌ بِذَلِكَ ، وَأَنَّ اللَّهَ طَمَسَ نُورَهُمَا ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَضَاءَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَأَنَّ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ سَبْعِينَ مَلَكًا مُوَكَّلًا يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَنْ قَالَهُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } الْآيَةَ ، وَأَنَّ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ مُلْتَزَمٌ مَا يَدْعُو بِهِ صَاحِبُ عَاهَةٍ

إلَّا بَرِئَ ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا وَكَزَ زَمْزَمَ بِعَقِبِهِ ، جَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تَجْمَعُ الْبَطْحَاءَ .
رَحِمَ اللَّهُ هَاجَرَ ، لَوْ تَرَكَتْهَا كَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا ، وَأَنَّهَا هَزْمَةُ جِبْرِيلَ ، وَسُقِيَا إسْمَاعِيلَ ، وَأَنَّ مَاءَهَا لِمَا شُرِبَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَأَنَّ التَّضَلُّعَ مِنْهُ بَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ ، وَأَنَّهُ خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَهَاكِ سَرْدُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ أَوْ حَسَنَةٍ : { أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ } ، أَيْ وَهُوَ الَّذِي لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ وَلَوْ صَغِيرَةً مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ إلَى التَّحَلُّلِ الثَّانِي .
{ مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } ، وَالرَّفَثُ اسْمٌ لِكُلِّ فُحْشٍ أَوْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ حَلِيلَتِهِ أَوْ الْجِمَاعِ أَقْوَالُ قَالَ بِكُلٍّ جَمَاعَةٌ .
{ الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ } .
وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي حَاشِيَةِ مَنَاسِكِ النَّوَوِيِّ فَاطْلُبْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ .
{ أَمَا عَلِمْت يَا عُمَرُ : أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ .
إنِّي جَبَانٌ وَإِنِّي ضَعِيفٌ ، فَقَالَ : هَلُمَّ إلَى جِهَادٍ لَا شَوْكَةَ فِيهِ الْحَجُّ أَفْضَلُ جِهَادٍ وَحَجٌّ مَبْرُورٌ جِهَادُ الْكَبِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ } .
{ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا حَجَّةً مَبْرُورَةً أَوْ عُمْرَةً مَبْرُورَةً } .
{ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ ، قِيلَ وَمَا بِرُّهُ ؟ قَالَ إطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَطِيبُ الْكَلَامِ } .
وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا مَرَّ فِي تَفْسِيرِ الْمَبْرُورِ فَتَأَمَّلْهُ .
{ تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَإِنَّهُمَا

يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } .
{ لَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إلَّا الْجَنَّةَ } .
{ مَنْ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ مَاشِيًا حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعَمِائَةِ حَسَنَةٍ كُلُّ حَسَنَةٍ مِثْلُ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ ، قِيلَ وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ ؟ قَالَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ } ، صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ لَكِنْ فِيهِ ابْنُ سِوَادَةَ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ .
{ إنَّ آدَمَ أَتَى الْبَيْتَ أَلْفَ أَتِيَّةٍ ، لَمْ يَرْكَبْ قَطُّ فِيهِنَّ مِنْ الْهِنْدِ عَلَى رِجْلَيْهِ } .
صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَاعْتَرَضَ ، بِأَنَّ فِيهِ وَاهِيًا .
{ وَالْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ ، دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ } { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ اسْتَمْتَعُوا بِهَذَا الْبَيْتِ فَقَدْ هُدِمَ مَرَّتَيْنِ وَيُرْفَعُ فِي الثَّالِثَةِ } : أَيْ بَعْدَهَا .
{ لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ : إنِّي مُهْبِطٌ مَعَك بَيْتًا أَوْ مَنْزِلًا يُطَافُ حَوْلَهُ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي وَيُصَلَّى عِنْدَهُ كَمَا يُصَلَّى حَوْلَ عَرْشِي .
فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الطُّوفَانِ رُفِعَ ، وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَحُجُّونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ مَكَانَهُ ، فَبَوَّأَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ فَبَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ : حِرَاءٌ وَثَبِيرٌ ، وَلُبْنَانُ ، وَجَبَلُ الطَّيْرِ ، وَجَبَلُ الْخَيْرِ ، فَتَمَتَّعُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
صَحَّ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَكَانَ كَالْمَرْفُوعِ ، وَفِي حَدِيثٍ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ مُوَثَّقُونَ : { إنَّ مَنْ أَمَّ الْبَيْتَ لَا تَضَعُ نَاقَتُهُ خُفًّا وَلَا تَرْفَعُهُ إلَّا كُتِبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَمُحِيَ عَنْهُ خَطِيئَةٌ ، وَإِنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ وَالسَّعْيَ كَعِتْقِ سَبْعِينَ رَقَبَةً ، وَالْوُقُوفَ تُغْفَرُ بِهِ الذُّنُوبُ وَإِنْ كَانَتْ بِعَدَدِ الرَّمَلِ أَوْ كَقَطْرِ الْمَطَرِ ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ ،

وَبِكُلِّ حَصَاةٍ مِنْ الْجِمَارِ تَكْفِيرُ كَبِيرَةٍ مِنْ الْمُوبِقَاتِ وَالنَّحْرُ مَذْخُورٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَبِكُلِّ شَعْرَةٍ حُلِقَتْ حَسَنَةٌ وَمَحْوُ خَطِيئَةٍ ، وَبِالطَّوَافِ بَعْدَ ذَلِكَ يَضَعُ مَلَكٌ يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَيَقُولُ : اعْمَلْ فِيمَا اُسْتُقْبِلَ ، فَقَدْ غُفِرَ لَك مَا مَضَى } .
{ مَنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ الْحَاجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كَتَبَ لَهُ أَجْرَ الْمُعْتَمِرِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًا فَمَاتَ كَتَبَ لَهُ أَجْرَ الْغَازِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي عُمْرَتِهَا : { إنَّ لَك مِنْ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِك : أَيْ تَعَبِك وَنَفَقَتِك النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ } .
{ مَا أَمْلَقَ حَاجٌّ قَطُّ } قَالَ جَابِرٌ : مَا افْتَقَرَ .
{ عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي .
مَا يَعْدِلُ الْحَجَّ مَعَك ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ } .
{ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَظَلُّ يَوْمَهُ مُحْرِمًا إلَّا غَابَتْ الشَّمْسُ بِذُنُوبِهِ } .
{ مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي إلَّا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ } .
{ مَسَحَهُمَا أَيْ الْيَمَانِيَيْنِ كَفَّارَةً لِلْخَطَايَا } .
{ لَا يَضَعُ أَيْ الطَّائِفُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى إلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ، وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً } .
{ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا لَا يَلْغُو فِيهِ كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ يَعْتِقُهَا } .

( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : إخَافَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى مُشَرِّفِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَإِرَادَتُهُمْ بِسُوءٍ وَإِحْدَاثُ حَدَثٍ أَيْ إثْمٍ فِيهَا وَإِيوَاءُ مُحْدِثِ ذَلِكَ الْإِثْمِ وَقَطْعِ شَجَرِهَا أَوْ حَشِيشِهَا ) .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ } ، زَادَ مُسْلِمٌ : { وَلَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إلَّا أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ } .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { مَنْ أَخَاف أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَقَدْ أَخَاف مَا بَيْنَ جَنْبَيَّ } .
وَفَسَّرَهُ جَابِرٌ رَاوِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بِأَنَّ مَنْ أَخَافَهُمْ فَقَدْ أَخَافَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَجَازِ الْمُقَابَلَةِ وَأَنَّ إخَافَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِنَايَةٌ عَنْ قَطْعِ الْوَصْلَةِ بَيْنَ الْمُخِيفِ وَبَيْنَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إذْ غَايَةُ الْإِخَافَةِ قَطْعُ الْوَصْلَةِ وَتَحَقُّقُ الْعَدَاوَةِ ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَخَاوِفِ وَالْخِزْيِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { اللَّهُمَّ مَنْ ظَلَمَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَأَخَافَهُمْ فَأَخِفْهُ وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ أَيْ فَرْضٌ أَوْ تَطَوُّعٌ أَوْ تَوْبَةٌ أَوْ اكْتِسَابٌ أَوْ وَزْنُ أَقْوَالٍ ، وَلَا عَدْلٌ أَيْ فَرْضٌ أَوْ تَطَوُّعٌ أَوْ فِدْيَةٌ أَوْ كَيْلٌ } أَقْوَالٍ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ

أَجْمَعِينَ ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } .
وَصَرَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ : بِأَنَّ اسْتِحْلَالَ حَرَمِ الْمَدِينَةِ كَبِيرَةٌ .
قَالَ غَيْرُهُ أَيْ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ : " أَنَّ أَنَسًا قِيلَ لَهُ أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ؟ فَقَالَ : بَلَى حَرَامٌ لَا يُخْتَلَى أَيْ يُقْطَعُ خَلَاهَا أَيْ كَلَؤُهَا الرَّطْبُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ السِّتَّةِ هُوَ صَرِيحُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَلَمْ أَرَ مَنْ عَدَّ الْأَوَّلَيْنِ مَعَ ظُهُورِهِمَا ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ صَرَّحَ بِهِمَا لَكِنَّهُ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ : وَاسْتِحْلَالُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَالْإِحْدَاثُ فِيهَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِهِ مَا ذَكَرْته لِمَا عَلِمْتَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِهِ .
فَإِنْ قُلْت : لَا خُصُوصِيَّةَ بِالْأَوَّلَيْنِ لَهُمْ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا كَبِيرَتَيْنِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ أَيْضًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ الْآتِي فِي الْإِيذَاءِ وَالظُّلْمِ .
قُلْت : يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْخُصُوصِيَّةِ عَلَى أَنَّ إرَادَتَهُمْ بِأَيِّ سُوءٍ وَإِخَافَتَهُمْ بِأَيِّ نَوْعٍ كَبِيرَةٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ ، فَإِنَّ شَرْطَ كَوْنِ كُلٍّ مِمَّا ذُكِرَ كَبِيرَةً أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ وَقْعُ وَبَالٍ فِي الْعَادَةِ .

خَاتِمَةٌ : فِي سَرْدِ أَحَادِيثَ أَكْثَرُهَا صَحِيحٌ وَبَقِيَّتُهَا حَسَنٌ فِي فَضْلِهَا { لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ شَهِيدًا إذَا كَانَ مُسْلِمًا } .
{ إنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَيْ حَرَّتَيْهَا وَطَرَفَيْهَا أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا أَيْ شَجَرُهَا أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا .
الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لَا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ } .
{ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ زَمَانٌ يَنْطَلِقُ النَّاسُ مِنْهَا إلَى الْأَرْيَافِ يَلْتَمِسُونَ الرَّخَاءَ فَيَجِدُونَ رَخَاءً ثُمَّ يَأْتُونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلَيْهِمْ إلَى الرَّخَاءِ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } .
{ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَمَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ كُنْت لَهُ شَفِيعًا وَشَهِيدًا .
الْوَبَاءُ وَالدَّجَّالُ لَا يَدْخُلَانِهَا } .
{ اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ خَلِيلَك وَعَبْدَك وَنَبِيَّك دَعَاك لِأَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُك وَرَسُولُك أَدْعُوك لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مِثْلَ مَا دَعَاك إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ نَدْعُوك أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ وَثِمَارِهِمْ } .
{ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَبْت إلَيْنَا مَكَّةَ وَاجْعَلْ مَا بِهَا مِنْ وَبَاءٍ بِخُمٍّ } أَيْ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ فَتَشْدِيدٍ ، غَيْضَةٌ قَرِيبٌ مِنْ الْجُحْفَةِ فَلَا يَمُرُّ عَلَيْهَا طَائِرٌ إلَّا حُمَّ .
{ اللَّهُمَّ إنِّي حَرَّمْت مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَيْ أَنْشَأْت تَحْرِيمَهُ إذْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا قَبْلُ كَمَا حَرَّمْتَ عَلَى لِسَانِ إبْرَاهِيمَ الْحَرَمَ } أَيْ أَظْهَرْت حُرْمَتَهُ بَعْدَ انْدِثَارِهَا وَإِلَّا فَهُوَ حَرَامٌ مِنْ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَمَا صَحَّ .
{ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا } أَيْ مَا يُكَالُ بِهِمَا مِنْ الْأَطْعِمَةِ .
{ اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ

عَبْدُك وَخَلِيلُك وَنَبِيُّك وَإِنِّي عَبْدُك وَنَبِيُّك فَإِنَّهُ دَعَاك لِمَكَّةَ وَأَنَا أَدْعُوك لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاك بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَاجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ أَيْ لِأَنَّهَا إذْ ذَاكَ مَسْكَنُ الْيَهُودِ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ الْمَدِينَةِ شَيْءٌ وَلَا شِعْبٌ وَلَا نَقْبٌ إلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَيَمَنِنَا ، قِيلَ وَعِرَاقِنَا قَالَ : إنَّ بِهَا قَرْنَ الشَّيْطَانِ أَيْ أَتْبَاعَهُ أَوْ قُوَّةَ مُلْكِهِ وَتَصْرِيفِهِ وَتَهْيِيجَ الْفِتَنِ وَإِنَّ الْجَفَاءَ بِالْمَشْرِقِ الْمَدِينَةُ قُبَّةُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْإِيمَانِ وَأَرْضُ الْهِجْرَةِ وَمَثْوَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ } .
الْكَبِيرَةُ السِّتُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : تَرْكُ الْأُضْحِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ وَجَدَ سَعَةً لَأَنْ يُضَحِّيَ فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَحْضُرُ مُصَلَّانَا } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ فَإِنَّ مَنْعَهُ مِنْ حُضُورِ الْمُصَلَّى فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ ؛ وَيُجَابُ مِنْ طَرَفِ الْقَائِلِينَ بِنَدْبِ الْأُضْحِيَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا هَكَذَا وَصَحَّحَهُ لَكِنَّهُ رَوَاهُ مَوْقُوفًا .
قَالَ غَيْرُهُ : وَلَعَلَّهُ أَشْبَهُ فَلَمْ تَتِمَّ الْحُجَّةُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَقُولَ مَنْعُهُ مِنْ الْحُضُورِ لَا وَعِيدَ فِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا أَوْ كُرَّاثًا } وَفِي رِوَايَةٍ { أَوْ فُجْلًا فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا } وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا حُرْمَةَ فِي أَكْلِ مَا ذُكِرَ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَا ظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ وَهِيَ إيذَاءُ النَّاسِ أَوْ الْمَلَائِكَةِ بِالرَّائِحَةِ فَحَمَلْنَا النَّهْيَ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا فِي خَبَرِ الْأُضْحِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمَنْعِ حِكْمَةٌ إلَّا تَغْلِيظَ تَرْكِهِ لَهَا .
وَوَرَدَ لِلْأُضْحِيَّةِ فَضَائِلُ تَقْتَضِي مَزِيدَ اعْتِنَاءِ الشَّارِعِ بِهَا .
مِنْهَا : { يَا فَاطِمَةُ قُومِي إلَى أُضْحِيَّتِك فَاشْهَدِيهَا فَإِنَّ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا أَنْ يُغْفَرَ لَك مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِك ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَنَا خَاصَّةً أَهْلَ الْبَيْتِ أَوْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ : بَلْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ } ، رَوَاهُ جَمَاعَةٌ وَفِي سَنَدِهِ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ لَكِنَّهُ وُثِّقَ .
وَفِي رِوَايَةٍ حَسَّنَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ سَنَدَهَا : { يَا فَاطِمَةُ قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَك فَإِنَّ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا مَغْفِرَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ ، أَمَا إنَّهُ يُجَاءُ بِدَمِهَا وَلَحْمِهَا فَيُوضَعُ فِي

مِيزَانِك سَبْعِينَ ضِعْفًا .
فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ أَهْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنْ الْخَيْرِ ، أَوْ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ؟ فَقَالَ لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً } .
{ مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ ؟ قَالَ سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ ، قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ .
قَالُوا فَالصُّوفُ ؟ قَالَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ الصُّوفِ حَسَنَةٌ } ، صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ سَاقِطَيْنِ .
{ مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ إهْرَاقِ الدَّمِ ، وَإِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا ، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ غَرِيبٌ وَالْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَفِيهِ وَاهٍ لَكِنَّهُ وُثِّقَ .
{ مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَيْ الْأَضْحَى أَفْضَلَ مِنْ دَمٍ يُهْرَاقُ إلَّا أَنْ تَكُونَ رَحِمًا تُوصَلُ } .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إسْنَادِهِ : يَحْيَى الْخُشَنِيُّ لَا يَحْضُرُنِي حَالُهُ .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا وَاحْتَسَبُوا بِدِمَائِهَا فَإِنَّ الدَّمَ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي حِرْزِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
{ مَنْ ضَحَّى طَيِّبَةٌ نَفْسُهُ مُحْتَسِبًا لِأُضْحِيَّتِهِ كَانَتْ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ } ، رَوَاهُمَا الطَّبَرَانِيُّ .

( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : بَيْعُ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً لَمْ أَرَهُ لَكِنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْأُضْحِيَّةِ بِبَيْعِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ وَعِيدًا شَدِيدًا لِإِبْطَالِهِ ثَوَابَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ أَصْلِهَا كَمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ النَّفْيِ الْمَوْضُوعِ أَصَالَةً لِانْتِفَاءِ الذَّاتِ مِنْ أَصْلِهَا ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّهُ بِالْأُضْحِيَّةِ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ وَصَارَ مِلْكًا لِلْفُقَرَاءِ ، فَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَبَاعَهُ كَانَ كَالْغَاصِبِ لِحَقِّ الْغَيْرِ ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْغَصْبَ كَبِيرَةٌ وَهَذَا مِنْهُ كَمَا عَلِمْت فَاتَّضَحَ عَدِّي لَهُ كَبِيرَةً .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالْبَيْعِ إعْطَاؤُهُ أُجْرَةً لِلْجَزَّارِ فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ حَرَامٌ كَبَيْعِهِ ، وَكَمَا أَنْ فِي الْبَيْعِ غَصْبًا لَهُ كَمَا تَقَرَّرَ ، فَكَذَا فِي إعْطَائِهِ أُجْرَةً لِلْجَزَّارِ فَلَمْ يَبْعُدْ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي أَنَّهُ كَبِيرَةٌ أَيْضًا

الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْمُثْلَةُ بِالْحَيَوَانِ كَقَطْعِ شَيْءٍ مِنْ نَحْوِ أَنْفِهِ أَوْ أُذُنِهِ ، وَوَسْمِهِ فِي وَجْهِهِ ، وَاِتِّخَاذِهِ غَرَضًا ، وَقَتْلِهِ لِغَيْرِ الْأَكْلِ ، وَعَدَمِ إحْسَانِ الْقِتْلَةِ وَالذِّبْحَةِ ) أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ مَثَّلَ بِذِي رُوحٍ ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مَثَّلَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ : { أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَلْ تَنْتِجُ إبِلُ قَوْمِك صِحَاحًا فَتَعْدِلُ إلَى الْمُوسَى فَتَقْطَعُ آذَانَهَا وَتَشُقُّ جُلُودَهَا وَتَقُولُ هَذِهِ صُرْمٌ } أَيْ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ جَمْعُ صَرِيمٍ وَهُوَ مَا صُرِمَ أُذُنُهُ : أَيْ قُطِعَ { فَتُحَرِّمُهَا عَلَيْك وَعَلَى أَهْلِك ؟ قُلْت نَعَمْ ، قَالَ : فَكُلُّ مَا آتَاك اللَّهُ حِلٌّ ، سَاعِدُ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ سَاعِدِك ، وَمُوسَى اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ مُوسَاك } .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِحِمَارٍ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ } .
وَصَحَّ { نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ وَعَنْ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ } ، وَصَحَّ : { لَعَنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَسِمُ فِي الْوَجْهِ } .
وَصَحَّ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِحِمَارٍ قَدْ كُوِيَ فِي وَجْهِهِ تَفُورُ مَنْخِرَاهُ مِنْ دَمٍ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا ثُمَّ نَهَى عَنْ الْكَيِّ فِي الْوَجْهِ وَالضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ } .
وَالشَّيْخَانِ : { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا أَوْ دَجَاجَةً يَتَرَامَوْنَهَا وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ ، فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا فَقَالَ مَنْ فَعَلَ هَذَا ؟ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا إنَّ

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا } وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ مَا تَنْصِبُهُ الرُّمَاةُ يَقْصِدُونَ إصَابَتَهُ مِنْ قِرْطَاسٍ وَنَحْوِهِ .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عُجَّ إلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ يَا رَبِّ إنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي مَنْفَعَةً } .
وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { مَا مِنْ إنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إلَّا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّهَا ؟ قَالَ يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا فَيَرْمِي بِهَا } .
وَمُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ : أَيْ سِكِّينَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } .
وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَاضِعٍ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ وَهُوَ يَحِدُّ شَفْرَتَهُ وَهِيَ تَلْحَظُ بِبَصَرِهَا إلَيْهِ قَالَ أَفَلَا قَبْلَ هَذَا ؟ أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ ؟ هَلَّا أَحْدَدْت شَفْرَتَك قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا ؟ } .
وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مُوَقْوِقًا : " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا يَجُرُّ شَاةً بِرِجْلِهَا لِيَذْبَحَهَا فَقَالَ لَهُ وَيْلَك قُدْهَا إلَى الْمَوْتِ قَوْدًا جَمِيلًا " .
وَصَحَّ : { مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ } .
{ لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَرَاحَمُوا ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا رَحِيمٌ ، قَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ وَلَكِنَّهَا رَحْمَةُ الْعَامَّةِ } .
{ ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ } .
{ وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، وَأَقْمَاعُ الْقَوْلِ مَنْ يَسْمَعُهُ وَلَا يَعِيهِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ .

شُبِّهُوا بِالْقِمْعِ ، وَهُوَ مَا يُجْعَلُ بِرَأْسِ الْإِنَاءِ الضَّيِّقِ حَتَّى يُمْلَأَ ، بِجَامِعِ أَنَّ نَحْوَ الْمَاءِ يَمُرُّ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا يَمْكُثُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ يَمُرُّ عَلَى آذَانِهِمْ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ } .
تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرْته مِنْ عَدِّ هَذِهِ الْخَمْسَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ لَمْ أَرَهُ لَكِنَّهُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ هُوَ صَرِيحُ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي فِي الْمُثْلَةِ ، وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فِي الْوَسْمِ ، وَالْخَامِسُ فِي اتِّخَاذِ الْحَيَوَانِ غَرَضًا ، وَالسَّادِسُ فِي الْقَتْلِ لِغَيْرِ الْأَكْلِ .
وَأَمَّا السَّادِسُ فَدَلِيلُهُ الْحَدِيثُ السَّادِسُ مَعَ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُثْلَةِ وَالْوَسْمِ بِالْأَوْلَى لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ أَوْ أَكْلِهِ مَيْتَةً .
وَتَعْذِيبُهُ الشَّدِيدُ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً كَأَكْلِ الْمَيِّتِ الْآتِي ثُمَّ رَأَيْت جَمْعًا أَطْلَقُوهَا أَنَّ تَعْذِيبَ الْحَيَوَانِ كَبِيرَةٌ .
وَبَعْضُهُمْ عَدَّ حَبْسَ الْحَيَوَانِ حَتَّى يَمُوتَ جُوعًا أَوْ عَطَشًا وَالْكَيَّ فِي الْوَجْهِ وَكَذَا ضَرْبُهُ ، وَاسْتَدَلَّ بِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي حَبَسَتْ الْهِرَّةَ فَأَدْخَلَتْهَا النَّارَ ، وَبِقَوْلِ شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذِهِ الْمَرْأَةُ كَانَتْ مُسْلِمَةً وَالْمَعْصِيَةُ كَبِيرَةٌ انْتَهَى .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِكَرَاهَةِ الذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ الْكَالَّةِ ، فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ عَدَمُ الْإِحْسَانِ السَّابِقِ كَبِيرَةً ؟ قُلْت : يَتَعَيَّنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ كَلَامِهِمْ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ كَالَّةً لَكِنَّهَا تَقْطَعُ الْمَرِيءَ وَالْحُلْقُومَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ لِحِلِّهِ حِينَئِذٍ مَعَ خِفَّةِ التَّعْذِيبِ .
وَهَذَا هُوَ مُرَادُهُمْ بِأَنَّهُ الَّذِي يُكْرَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ لَوْ ذَبَحَ بِكَالٍّ لَا يَقْطَعُ إلَّا بِقُوَّةِ الذَّابِحِ لَمْ يَحِلَّ .
أَمَّا إذَا وَصَلَ إلَيْهَا قَبْلَ قَطْعِ الْمَرِيءِ أَوْ بَعْضِ الْحُلْقُومِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحَرِّمُهَا وَيُصَيِّرُهَا مَيْتَةً كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ؛ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ

كَبِيرَةٌ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا لِأَنَّ تَصْيِيرَ الْحَيَوَانِ مَيْتَةً لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ وَلَوْ وَحْشِيًّا إلَّا بِالْقَطْعِ الْمَحْضِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ تَحِلُّ ذَكَاتُهُ لِجَمِيعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مَعَ اسْتِقْرَارِ الْحَيَاةِ فِي الِابْتِدَاءِ بِمُحَدَّدٍ جَارِحٍ غَيْرِ الْعَظْمِ وَلَوْ سِنًّا وَالظُّفْرَ ، فَلَوْ ذَبَحَهُ مِنْ قَفَاهُ أَوْ مِنْ صَفْحَةِ عُنُقِهِ أَوْ بِإِدْخَالِ السِّكِّينِ فِي أُذُنِهِ حَلَّ وَإِنْ انْتَهَى بَعْدَ قَطْعِ الْمَرِيءِ وَبَعْضِ الْحُلْقُومِ إلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ لَمَا نَالَهُ بِقَطْعِ الْقَفَا لَكِنَّهُ يَعْصِي وَيَأْثَمُ بِذَلِكَ ، بَلْ رُبَّمَا يَفْسُقُ إنْ عَلِمَ وَتَعَمَّدَ لِمَا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ الْحَيَوَانِ الْإِيذَاءَ الشَّدِيدَ .
وَيَكْفِي فِي اسْتِقْرَارِ الْحَيَاةِ الظَّنُّ كَأَنْ تَشْتَدَّ حَرَكَتُهُ بَعْدَ الذَّبْحِ وَيَتَفَجَّرَ دَمُهُ وَيَتَدَفَّقَ وَيَحْرُمُ مَا أُبِينَ رَأْسُهُ بِسِكِّينٍ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْحُلْقُومِ أَوْ الْمَرِيءِ أَوْ بِنَحْوِ بُنْدُقَةٍ وَإِنْ قُطِعَا وَمَا تَأَنَّى فِي ذَبْحِهِ فَلَمْ يُتِمَّهُ حَتَّى ذَهَبَ اسْتِقْرَارُ الْحَيَاةِ أَوْ شَكَّ فِي بَقَائِهَا ، وَمَا قَارَنَ ذَبْحَهُ إخْرَاجُ أَمْعَائِهِ ، وَمَيِّتٌ بِمُثْقَلٍ مُحَدَّدٍ أَصَابَهُ كَعَرْضِ سَهْمٍ وَإِنْ أَنْهَرَ الدَّمَ أَوْ بِمُحَرَّمٍ وَمُبِيحٍ كَجُرْحِ سَهْمٍ وَصَدْمٍ عَرَضَهُ فِي مُرُورِهِ وَكَجَرْحِهِ جَرْحًا مُؤَثِّرًا فَوَقَعَ عَلَى مُحَدَّدٍ أَوْ فِي نَحْوِ مَاءٍ ، وَلَوْ جَرَحَ سَبُعٌ صَيْدًا أَوْ سَقَطَ جِدَارٌ عَلَى بَعِيرٍ أَوْ أَكَلَ عَلَفًا مُضِرًّا فَذَبَحَهُ لَمْ يَحِلَّ إلَّا إنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ مُسْتَقِرَّةً عِنْدَ ابْتِدَاءِ الذَّبْحِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ مَرِضَ أَوْ جَاعَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ ذَبْحُهُ وَإِنْ انْتَهَى إلَى أَدْنَى رَمَقٍ ، إذْ لَا سَبَبَ هُنَا يُحَالُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ بِخِلَافِهِ ثَمَّ .

الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الذَّبْحُ بِاسْمِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكْفُرُ بِهِ بِأَنْ لَمْ يَقْصِدْ تَعْظِيمَ الْمَذْبُوحِ لَهُ كَنَحْوِ التَّعْظِيمِ بِالْعِبَادَةِ وَالسُّجُودِ ) كَذَا عَدَّ هَذِهِ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } : أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ كَذَلِكَ بِأَنْ ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ إذْ هَذَا هُوَ الْفِسْقُ هُنَا كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } .
وَبِهَذَا بَانَ أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ حَلَالٌ .
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ يُرِيدُ الْمَيْتَةَ وَالْمُنْخَنِقَةَ إلَى قَوْلِهِ { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : يَعْنِي مَا لَمْ يُذَكَّ أَوْ ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ عَطَاءٌ : نُهِيَ عَنْ ذَبَائِحَ كَانَتْ تَذْبَحُهَا قُرَيْشٌ وَالْعَرَبُ عَلَى الْأَوْثَانِ .
قِيلَ وَمَعْنَى { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } : أَيْ أَكْلُ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَيْتَةِ فِسْقٌ : أَيْ خُرُوجٌ عَنْ الدِّينِ .
وَمَعْنَى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } أَيْ يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ لِوَلِيِّهِ فَيُلْقِي فِي قَلْبِهِ الْجَدَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَيْتَةِ بِالْبَاطِلِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوْحَى الشَّيْطَانُ إلَى أَوْلِيَائِهِ مِنْ الْإِنْسِ كَيْفَ تَعْبُدُونَ شَيْئًا لَا تَأْكُلُونَ مَا يَقْتُلُ وَأَنْتُمْ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } يَعْنِي فِي اسْتِحْلَالِ الْمَيْتَةِ { إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } ( ) قَالَ الزَّجَّاجُ : فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحَلَّ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ مُشْرِكٌ .
أَيْ بِشَرْطِ أَنْ يُجْمَعَ عَلَيْهِ وَيُعْلَمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ أَبَحْتُمْ ذَبِيحَةَ الْمُسْلِمِ وَالْآيَةُ كَالنَّصِّ فِي التَّحْرِيمِ ؟ قُلْنَا : لَمْ

يُفَسِّرْهَا الْمُفَسِّرُونَ إلَّا بِالْمَيْتَةِ وَلَمْ يَحْمِلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهَا .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمَيْتَةِ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } وَلَا يَفْسُقُ آكِلُ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ التَّارِكِ لِلتَّسْمِيَةِ وَإِنْ اعْتَقَدَ الْحُرْمَةَ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لِقُوَّةِ الْخِلَافِ فِي حِلِّهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً عِنْدَ الْقَائِلِ بِتَحْرِيمِهِ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ } إلَخْ إذْ الْمُنَاظَرَةُ إنَّمَا كَانَتْ فِي الْمَيْتَةِ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ لَا فِي ذَبِيحَةِ تَارِكِ التَّسْمِيَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وَالشِّرْكُ فِي اسْتِحْلَالِ الْمَيْتَةِ لَا فِي اسْتِحْلَالِ الذَّبِيحَةِ الَّتِي لَمْ يُسَمِّ عَلَيْهَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ بِسَنَدِهِ أَحَادِيثَ فِي بَعْضِهَا حِلُّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ سَهْوًا وَفِي بَعْضِهَا حِلُّهُ مُطْلَقًا .
وَجَعَلَ أَصْحَابُنَا مِمَّا يُحَرِّمُ الذَّبِيحَةَ أَنْ يَقُولَ بِاسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ مُحَمَّدٍ أَوْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ بِجَرِّ اسْمِ الثَّانِي أَوْ مُحَمَّدٍ إنْ عَرَفَ النَّحْوَ فِيمَا يَظْهَرُ ، أَوْ أَنْ يَذْبَحَ كِتَابِيٌّ لِكَنِيسَةٍ أَوْ لِصَلِيبٍ أَوْ لِمُوسَى أَوْ لِعِيسَى ، وَمُسْلِمٌ لِلْكَعْبَةِ أَوْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ تَقَرُّبًا لِسُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِلْجِنِّ ، فَهَذَا كُلُّهُ يُحَرِّمُ الْمَذْبُوحَ وَهُوَ كَبِيرَةٌ عَلَى مَا مَرَّ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَصَدَ الْفَرَحَ بِقُدُومِهِ أَوْ شُكْرَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، أَوْ قَصَدَ إرْضَاءَ سَاخِطٍ أَوْ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ لِيَدْفَعَ عَنْهُ شَرَّ الْجِنِّ .

( الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : تَسْيِيبُ السَّوَائِبِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ أَرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ الْمُقْتَضِي لِشِدَّةِ الْوَعِيدِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ } .
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : مَنْ مَلَكَ صَيْدًا ثُمَّ سَيَّبَهُ أَثِمَ وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ وَإِنْ قَالَ عِنْدَ إرْسَالِهِ أَبَحْته لِمَنْ يَأْخُذُهُ ، لَكِنْ عِنْدَ قَوْلِهِ ذَلِكَ لِمَنْ أَخَذَهُ أَكْلُهُ لَا التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُلْقِيهِ الْمُلَّاكُ إعْرَاضًا عَنْهُ كَكِسْرَةِ خُبْزٍ وَسَنَابِلَ الْحَصَّادِينَ ، وَمِنْ ثَمَّ يَمْلِكُهُ مَنْ أَخَذَهُ .
خَاتِمَةٌ لَوْ اخْتَلَطَ حَمَامُهُ بِحَمَامِ غَيْرِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ بِأَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكِهِ ، وَمَا تَنَاسَلَ مِنْهُمَا لِمَالِكِ الْإِنَاثِ فَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ فَلَهُ أَخْذُ قَدْرِ مِلْكِهِ بِالِاجْتِهَادِ وَلَا يَخْفَى الْوَرَعُ أَوْ نَحْوُ دِرْهَمٍ أَوْ دُهْنٍ حَرَامٍ بِدَرَاهِمِهِ أَوْ دُهْنِهِ جَازَ لَهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ إفْرَازُ قَدْرِ الْحَرَامِ وَصَرْفِهِ لِجِهَةِ اسْتِحْقَاقِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْبَاقِي ، وَنَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ الشَّرِيكَ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْقِسْمَةِ فَلِيَرْفَعَهُ إلَى الْقَاضِي لِيُقَاسِمَهُ عَنْ الْمَالِكِ إنْ تَعَذَّرَ .
وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا مَحَلُّ ضَرُورَةٍ إذْ لَا تَقْصِيرَ هُنَا مِنْ ذِي الْمَالِ بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِالِاخْتِيَارِ ، وَمَا لَا يَثْبُتْ بِالِاخْتِيَارِ كَالْإِرْثِ يَلْحَقُ بِمَا يَثْبُتُ بِالِاخْتِيَارِ ، عَلَى أَنَّ فِي رَفْعِهِ لِلْقَاضِي مَشَقَّةً ظَاهِرَةً لِأَنَّهُ لَا يُقَسِّمُهُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ بَيِّنَةٍ عِنْدَهُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ لَوْ رَفَعَ إلَيْهِ

أَصْحَابُ يَدٍ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَيُقَسِّمَهُ بَيْنَهُمْ لَمْ يُجِبْهُمْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ بِالْمِلْكِ وَلَا يَكْتَفِي بِالْيَدِ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ تَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ مِنْهُ لَهُمْ بِهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى بَيِّنَةٍ لَا إلَى مُجَرَّدِ الْيَدِ ، فَلِهَذِهِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تُطَاقُ غَالِبًا اقْتَضَتْ الضَّرُورَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِإِفْرَازِ قَدْرِ الْحَرَامِ حَتَّى يَتَصَرَّفَ فِي الْبَاقِي ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ بَحْثُ الرَّافِعِيِّ إلْحَاقَ ذَلِكَ بِاخْتِلَاطِ الْحَمَامَيْنِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي طَرِيقِ التَّصَرُّفِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ صُدِّقَ مَنْ أَنْشَأَهُ عَلَى مِلْكِهِ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ .
وَلَوْ اخْتَلَطَ حَمَامُ مَمْلُوكٍ بِمُبَاحٍ فِي صَحْرَاءَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُبَاحُ مَحْصُورًا بِأَنْ يَسْهُلَ عَدُّهُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إلَيْهِ حَرُمَ الِاصْطِيَادُ مِنْهُ أَوْ غَيْرَ مَحْصُورٍ لَمْ يَحْرُمْ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَوْ أَرْسَلَ جَمْعٌ كِلَابَهُمْ عَلَى صَيْدٍ فَأَدْرَكُوا صَيْدًا قَتِيلًا وَقَالَ كُلٌّ كَلْبِي قَتَلَهُ حَلَّ الصَّيْدُ ، ثُمَّ إنْ وُجِدَتْ الْكِلَابُ مُمْسِكَةً لَهُ فَهُوَ بَيْنَ أَرْبَابِهَا أَوْ بَعْضِهَا فَهُوَ لِصَاحِبِهِ أَوْ غَيْرَ مُمْسِكَةٍ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ وَوَقَفَ لِلصُّلْحِ عِنْدَ غَيْرِهِ ، فَإِنْ خِيفَ فَسَادُهُ بِيعَ وَوُقِفَ ثَمَنُهُ إلَى إصْلَاحِهِمْ .

الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : التَّسْمِيَةُ بِمَلَكِ الْأَمْلَاكِ ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ رَجُلٌ يُسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ ، لَا مَالِكَ إلَّا اللَّهُ } .
وَالشَّيْخَانِ : { إنَّ أَخْنَعَ - اسْمٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ - رَجُلٌ يُسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ } ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ { لَا مَالِكَ إلَّا اللَّهُ } .
قَالَ سُفْيَانُ : مِثْلُ شَاهِينَ شَاهٍ .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : سَأَلْت أَبَا عَمْرٍو عَنْ أَخْنَعَ فَقَالَ أَوْضَعَ .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : أَخْنَعُ أَبْشَعُ أَوْ أَقْبَحُ أَوْ أَكْرَهُ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذُكِرَ هُوَ صَرِيحُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ ، ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ صَرَّحَ بِهِ .
قَالَ أَئِمَّتُنَا : وَتَحْرُمُ التَّسْمِيَةُ بِكُلٍّ مِنْ مَلِكِ الْأَمْلَاكِ ، وَشَاهِينَ شَاهٍ إذْ هُوَ بِمَعْنَاهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ غَيْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَلْحَقَ بِذَلِكَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا حَاكِمَ الْحُكَّامِ وَقَاضِي الْقُضَاةِ .
وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ بَيَّنْته فِي مَبْحَثِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ مِنْ حَاشِيَةِ مَنَاسِكِ النَّوَوِيِّ الْكُبْرَى .

الْكَبِيرَةُ السَّبْعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : أَكْلُ الْمُسْكِرِ الطَّاهِرِ كَالْحَشِيشَةِ وَالْأَفْيُونِ وَالشَّيْكَرَانِ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْبَنْجُ وَكَالْعَنْبَرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَجَوْزَةِ الطِّيبِ ) فَهَذِهِ كُلُّهَا مُسْكِرَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي بَعْضِهَا وَغَيْرُهُ فِي بَاقِيهَا ، وَمُرَادُهُمْ بِالْإِسْكَارِ هُنَا تَغْطِيَةُ الْعَقْلِ لَا مَعَ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ لِأَنَّهَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْمُسْكِرِ الْمَائِعِ ، وَسَيَأْتِي بَحْثُهُ فِي بَابِ الْأَشْرِبَةِ ، وَبِمَا قَرَّرْته فِي مَعْنَى الْإِسْكَارِ فِي هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُنَافِي أَنَّهَا تُسَمَّى مُخَدِّرَةً ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مُسْكِرَةٌ أَوْ مُخَدِّرَةٌ فَاسْتِعْمَالُهَا كَبِيرَةٌ وَفِسْقٌ كَالْخَمْرِ ، فَكُلُّ مَا جَاءَ فِي وَعِيدِ شَارِبِهَا يَأْتِي فِي مُسْتَعْمِلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي إزَالَةِ الْعَقْلِ الْمَقْصُودِ لِلشَّارِعِ بَقَاؤُهُ ، لِأَنَّهُ الْآلَةُ لِلْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ وَالْمُتَمَيِّزُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ الْحَيَوَانِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى إيثَارِ الْكَمَالَاتِ عَنْ النَّقَائِصِ ، فَكَانَ فِي تَعَاطِي مَا يُزِيلُهُ وَعِيدُ الْخَمْرِ الْآتِي فِي بَابهَا ، وَقَدْ أَلَّفْت كِتَابًا سَمَّيْته [ تَحْذِيرُ الثِّقَاتِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْكُفْتَةِ وَالْقَاتِّ ] لَمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْيَمَنِ فِيهِ ، وَأَرْسَلُوا إلَيَّ ثَلَاثَ مُصَنَّفَاتٍ اثْنَانِ فِي تَحْرِيمِهِ وَوَاحِدٌ فِي حِلِّهِ وَطَلَبُوا مِنِّي إبَانَةَ الْحَقِّ فِيهِمَا ، فَأَلَّفْت ذَلِكَ الْكِتَابَ فِي التَّحْذِيرِ عَنْهُمَا وَإِنْ لَمْ أَجْزِمْ بِحُرْمَتِهِمَا ، وَاسْتَطْرَدْت فِيهِ إلَى ذِكْرِ بَقِيَّةِ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ الْجَامِدَةِ وَبَسَطْت فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْبَسْطِ .
وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ خُلَاصَةِ ذَلِكَ هُنَا فَنَقُولُ : الْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ } .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْمُفْتِرُ

كُلُّ مَا يُورِثُ الْفُتُورَ وَالْخَدَرَ فِي الْأَطْرَافِ ، وَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ كُلُّهَا تُسْكِرُ وَتُخَدِّرُ وَتُفْتِرُ .
وَحَكَى الْقَرَافِيُّ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَشِيشَةِ ، قَالَ : وَمَنْ اسْتَحَلَّهَا فَقَدْ كَفَرَ .
قَالَ : وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِمْ ، وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ فِي آخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَأَوَّلِ الْمِائَةِ السَّابِعَةِ حِينَ ظَهَرَتْ دَوْلَةُ التَّتَارِ .
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ قَوْلًا أَنَّ النَّبَاتَ الَّذِي فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ ، ثُمَّ مَا ذَكَرْته فِي الْجَوْزَةِ هُوَ مَا أَفْتَيْت بِهِ فِيهَا قَدِيمًا لَمَّا وَقَعَ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَمِصْرَ وَظَفِرْت فِيهَا مِنْ النَّقْلِ بَعْدَ الْفَحْصِ وَالتَّنْقِيرِ بِمَا لَمْ يَظْفَرُوا بِهِ .
وَلِذَا سُئِلَ عَنْهَا جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ فَأَبْدَوْا فِيهَا آرَاءً مُتَخَالِفَةً بَحْثًا مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ ، فَلَمَّا عُرِضَ عَلَيَّ السُّؤَالُ أَجَبْت فِيهَا بِالنَّقْلِ الصَّرِيحِ وَالدَّلِيلِ الصَّحِيحِ رَادًّا عَلَى مَنْ خَالَفَ مَا ذَكَرْته وَإِنْ جَلَّتْ مَرْتَبَتُهُ .
وَمُحَصِّلُ السُّؤَالِ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَوْ مُقَلَّدَيْهِمْ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ جَوْزَةِ الطِّيبِ ، وَهَلْ لِبَعْضِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ الْآنَ الْإِفْتَاءُ بِتَحْرِيمِ أَكْلِهَا وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى نَقْلٍ بِهِ ، فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَهَلْ يَجِبُ الِانْقِيَادُ لِفَتْوَاهُ ؟ وَمُحَصِّلُ الْجَوَابِ الَّذِي أَجَبْت بِهِ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ دَقِيقٍ الْعِيدُ أَنَّهَا أَعْنِي الْجَوْزَةَ مُسْكِرَةٌ ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَاعْتَمَدُوهُ ، وَنَاهِيَك بِذَلِكَ ، بَلْ بَالَغَ ابْنُ الْعِمَادِ فَجَعَلَ الْحَشِيشَةَ مَقِيسَةً عَلَى الْجَوْزَةِ الْمَذْكُورَةِ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْ الْقَرَافِيِّ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ عَصْرِهِ أَنَّهُ فَرَّقَ فِي إسْكَارِ الْحَشِيشَةِ بَيْنَ كَوْنِهَا وَرَقًا أَخْضَرَ فَلَا

إسْكَارَ فِيهَا بِخِلَافِهَا بَعْدَ التَّحْمِيصِ فَإِنَّهَا تُسْكِرُ ، قَالَ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِجَوْزَةِ الطِّيبِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْعَنْبَرِ وَالْأَفْيُونِ وَالْبَنْجِ وَهُوَ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ الْمُخَدِّرَاتِ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَسْطَلَّانِيِّ فِي تَكْرِيمِ الْمَعِيشَةِ انْتَهَى .
فَتَأَمَّلْ تَعْبِيرَهُ بِالصَّوَابِ ، وَجَعْلُهُ الْحَشِيشَةَ الَّتِي أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهَا مَقِيسَةً عَلَى الْجَوْزَةِ تُعْلِمُ أَنَّهُ لَا مِرْيَةَ فِي تَحْرِيمِ الْجَوْزَةِ لِإِسْكَارِهَا أَوْ تَخْدِيرِهَا .
وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى إسْكَارِهَا الْحَنَابِلَةَ ، فَنَصَّ إمَامُ مُتَأَخِّرَيْهِمْ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَتَبِعُوهُ عَلَى أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ .
فَفِي فَتَاوَى الْمَرْغِينَانِيِّ مِنْهُمْ : الْمُسْكِرُ مِنْ الْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ - أَيْ أَنَاثَى الْخَيْلِ - حَرَامٌ وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ قَالَهُ الْفَقِيهُ أَبُو حَفْصٍ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ انْتَهَى .
وَقَدْ عَلِمْت مِنْ كَلَامِ ابْنِ دَقِيقٍ الْعِيدِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْجَوْزَةَ كَالْبَنْجِ ، فَإِذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِإِسْكَارِهِ لَزِمَهُمْ الْقَوْلُ بِإِسْكَارِ الْجَوْزَةِ ، فَثَبَتَ بِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا حَرَامٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِالنَّصِّ ، وَالْحَنَفِيَّةِ بِالِاقْتِضَاءِ لِأَنَّهَا إمَّا مُسْكِرَةٌ أَوْ مُخَدِّرَةٌ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الْحَشِيشَةِ الْمَقِيسَةِ عَلَى الْجَوْزَةِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ [ التَّذْكِرَةُ ] وَالنَّوَوِيُّ فِي [ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ] وَابْنُ دَقِيقٍ الْعِيدُ أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ عِنْدَنَا ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي حَدِّهِمْ السَّكْرَانَ بِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَلَّ كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ أَوْ الَّذِي لَا يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا الطُّولَ مِنْ الْعَرْضِ ، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ

الْقَرَافِيِّ أَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَنَفَى عَنْهَا الْإِسْكَارَ وَأَثْبَتَ لَهَا الْإِفْسَادَ ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ وَأَطَالَ فِي تَخْطِئَتِهِ وَتَغْلِيطِهِ .
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى إسْكَارِهَا أَيْضًا الْعُلَمَاءُ بِالنَّبَاتِ مِنْ الْأَطِبَّاءِ وَإِلَيْهِمْ الْمُرَجِّعُ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَتَبِعَهُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي مَذْهَبِهِ .
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ خِلَافُ الْإِطْلَاقَيْنِ إطْلَاقِ الْإِسْكَارِ وَإِطْلَاقِ الْإِفْسَادِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِسْكَارَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ تَغْطِيَةِ الْعَقْلِ ، وَهَذَا إطْلَاقٌ أَعَمُّ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ تَغْطِيَةُ الْعَقْلِ مَعَ نَشْوَةٍ وَطَرَبٍ ، وَهَذَا إطْلَاقٌ أَخَصُّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِسْكَارِ حَيْثُ أُطْلِقَ .
فَعَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْمُخَدِّرِ عُمُومٌ مُطْلَقٌ إذْ كُلُّ مُخَدِّرٍ مُسْكِرٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْكِرٍ مُخَدِّرًا ؛ فَإِطْلَاقُ الْإِسْكَارِ عَلَى الْحَشِيشَةِ وَالْجَوْزَةِ وَنَحْوِهِمَا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّحْذِيرُ ، وَمَنْ نَفَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَرَادَ بِهِ مَعْنَاهُ الْأَخَصَّ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مِنْ شَأْنِ السُّكْرِ بِنَحْوِ الْخَمْرِ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ النَّشْوَةُ وَالنَّشَاطُ وَالطَّرَبُ وَالْعَرْبَدَةُ وَالْحَمِيَّةُ ، وَمِنْ شَأْنِ السُّكْرِ بِنَحْوِ الْحَشِيشَةِ وَالْجَوْزَةِ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ أَضْدَادُ ذَلِكَ مِنْ تَخْدِيرِ الْبَدَنِ وَفُتُورِهِ وَمِنْ طُولِ السُّكُوتِ وَالنَّوْمِ وَعَدَمِ الْحَمِيَّةِ وَبِقَوْلِي مِنْ شَأْنِهِ فِيهِمَا يُعْلَمُ رَدُّ مَا أَوْرَدَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَلَى الْقَرَافِيِّ مِنْ أَنَّ بَعْضَ شَرَبَةِ الْخَمْرِ يُوجَدُ فِيهِ مَا ذُكِرَ فِي نَحْوِ الْحَشِيشَةِ وَبَعْضَ أَكْلِهِ نَحْوَ الْحَشِيشَةِ يُوجَدُ فِيهِ مَا ذُكِرَ فِي الْخَمْرِ .
وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ مَا نِيطَ بِالْمَظِنَّةِ لَا يُؤْثِرُ فِيهِ خُرُوجُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ ، كَمَا أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ لَمَّا نِيطَ بِمَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْمَشَقَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ ، فَاتَّضَحَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ عَبَّرَ فِي نَحْوِ

الْحَشِيشَةِ بِالْإِسْكَارِ وَمَنْ عَبَّرَ بِالتَّخْدِيرِ وَالْإِفْسَادِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ إفْسَادٌ خَاصٍّ هُوَ مَا سَبَقَ .
فَانْدَفَعَ بِهِ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ إنَّ التَّعْبِيرَ بِهِ يَشْمَلُ الْجُنُونَ وَالْإِغْمَاءَ لِأَنَّهُمَا مُفْسِدَانِ لِلْعَقْلِ أَيْضًا ، فَظَهَرَ بِمَا تَقَرَّرَ صِحَّةُ قَوْلِ الْفَقِيهِ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ إنَّهَا مُخَدِّرَةٌ وَبُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ نَازَعَهُ فِي ذَلِكَ لَكِنْ إنْ كَانَ لِجَهْلِهِ عُذِرَ .
وَبَعْدَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْعُلَمَاءِ مَتَى زَعَمَ حِلَّهَا أَوْ عَدَمَ تَخْدِيرِهَا وَإِسْكَارِهَا يُعَزَّرُ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الزَّاجِرَ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ ، بَلْ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَأَقَرَّهُ أَهْلُ مَذْهَبِهِ مَنْ زَعَمَ حِلَّ الْحَشِيشَةِ كَفَرَ .
فَلْيَحْذَرْ الْإِنْسَانُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمُعَظَّمِ .
وَعَجِيبٌ مِمَّنْ خَاطَرَ بِاسْتِعْمَالِ الْجَوْزَةِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ وَالْإِثْمِ لِأَغْرَاضِهِ الْفَاسِدَةِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَغْرَاضَ تَحْصُلُ جَمِيعُهَا بِغَيْرِهَا .
فَقَدْ صَرَّحَ رَئِيسُ الْأَطِبَّاءِ ابْنُ سِينَا فِي قَانُونِهِ بِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهَا وَزْنُهَا وَنِصْفُ وَزْنِهَا مِنْ السُّنْبُلِ ، فَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ مِنْهَا قَدْرًا مَا ثُمَّ اسْتَعْمَلَ وَزْنَهُ وَنِصْفَ وَزْنِهِ مِنْ السُّنْبُلِ حَصَلَتْ لَهُ جَمِيعُ أَغْرَاضِهِ مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ الْإِثْمِ وَالتَّعَرُّضِ لِعِقَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، عَلَى أَنَّ فِيهَا بَعْضَ مَضَارَّ بِالرِّئَةِ ذَكَرَهَا بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ وَقَدْ خَلَا السُّنْبُلُ عَنْ تِلْكَ الْمَضَارِّ فَقَدْ حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهَا وَزَادَ عَلَيْهِ بِالسَّلَامَةِ مِنْ مَضَارِّهَا الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، انْتَهَى جَوَابِي فِي الْجَوْزَةِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى النَّفَائِسِ .
وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ الْحَاوِي الصَّغِيرِ أَنَّ الْحَشِيشَةَ نَجِسَةٌ إنْ ثَبَتَ أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ وَغَلَطٌ .
وَفِي كِتَابِ [ السِّيَاسَةِ ] لِابْنِ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الْحَدَّ

وَاجِبٌ فِي الْحَشِيشَةِ كَالْخَمْرِ ، قَالَ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ جَمَادًا وَلَيْسَتْ شَرَابًا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَتِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : فَقِيلَ نَجِسَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى .
وَيَحْرُمُ إطْعَامُ الْحَشِيشَةِ الْحَيَوَانَ أَيْضًا لِأَنَّ إسْكَارَهُ حَرَامٌ أَيْضًا .
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مُتْلِفِهَا كَالْخَمْرِ ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْقُطْبِ الْعَسْقَلَانِيُّ أَنَّهَا حَارَّةٌ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ يَابِسَةٌ فِي الْأُولَى تُصَدِّعُ الرَّأْسَ ، وَتُظْلِمُ الْبَصَرَ ، وَتَعْقِدُ الْبَطْنَ ، وَتُجَفِّفُ الْمَنِيَّ .
فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ وَطَبْعٍ مُسْتَقِيمٍ اجْتِنَابُهَا كَغَيْرِهَا مِمَّا سَبَقَ لِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَضَارِّ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ مَدَاعِي الْهَلَاكِ ، وَرُبَّمَا نَشَأَ مِنْ تَجْفِيفِ الْمَنِيِّ وَصُدَاعِ الرَّأْسِ وَغَيْرِهِمَا أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ .
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ الْبَيْطَارِ وَإِلَيْهِ انْتَهَتْ رِئَاسَةُ زَمَنِهِ فِي مَعْرِفَةِ النَّبَاتِ وَالْأَعْشَابِ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ لِقَوِيِّ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ : وَمِنْ الْقُنَّبِ الْهِنْدِيِّ نَوْعٌ ثَالِثٌ يُقَالُ لَهُ الْقُنَّبُ وَلَمْ أَرَهُ بِغَيْرِ مِصْرَ ، وَيُزْرَعُ فِي الْبَسَاتِينِ وَيُسَمَّى بِالْحَشِيشَةِ أَيْضًا وَهُوَ يُسْكِرُ جِدًّا إذَا تَنَاوَلَ مِنْهُ الْإِنْسَانُ يَسِيرًا قَدْرَ دِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمَيْنِ حَتَّى إنَّ مَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَخْرَجَهُ إلَى حَدِّ الرُّعُونَةِ ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ قَوْمٌ فَاخْتَلَتْ عُقُولُهُمْ وَأَدَّى بِهِمْ الْحَالُ إلَى الْجُنُونِ وَرُبَّمَا قَتَلَتْ .
قَالَ الْقُطْبُ : وَقَدْ نُقِلَ لَنَا أَنَّ الْبَهَائِمَ لَا تَتَنَاوَلُهَا ، فَمَا قَدْرُ مَأْكُولٍ تَنْفِرُ الْبَهَائِمُ عَنْ تَنَاوُلِهِ وَهِيَ كَغَيْرِهَا مِمَّا سَبَقَ أَيْضًا مِمَّا يُحِيلُ الْأَبْدَانَ وَيَمْسَخُهَا وَيُحَلِّلُ قَوَّاهَا وَيُحَرِّقُ دِمَاءَهَا وَيُجَفِّفُ رُطُوبَتَهَا وَيُصَفِّرُ اللَّوْنَ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا إمَامُ وَقْتِهِ فِي الطِّبِّ : وَتُوَلِّدُ أَفْكَارًا كَثِيرَةً

رَدِيئَةً وَتُجَفِّفُ الْمَنِيَّ لِقِلَّةِ الرُّطُوبَةِ فِي الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ ، أَيْ وَإِذَا قَلَّتْ رُطُوبَةُ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ كَانَتْ سَبَبًا لِحُدُوثِ أَخْطَرِ الْأَمْرَاضِ وَأَقْبَحِ الْعِلَلِ ، وَمِمَّا أُنْشِدَ فِيهَا : قُلْ لِمَنْ يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ جَهْلًا يَا خَسِيسًا قَدْ عِشْت شَرَّ مَعِيشَةٍ دِيَةُ الْعَقْلِ بِدُرَّةٍ فَلِمَاذَا يَا سَفِيهًا قَدْ بِعْتَهُ بِحَشِيشِهِ قَالَ : وَقَدْ بَلَغَنَا مَنْ جَمْعٍ يَفُوقُ حَدَّ الْحَصْرِ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ عَانَاهَا مَاتَ بِهَا فَجْأَةً وَآخَرِينَ اخْتَلَتْ عُقُولُهُمْ وَابْتُلُوا بِأَمْرَاضٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ الدَّقِّ وَالسُّلِّ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَأَنَّهَا تَسْتُرُ الْعَقْلَ وَتَغْمُرُهُ ، وَمِمَّا أُنْشِدَ فِيهَا أَيْضًا : يَا مَنْ غَدَا أَكْلُ الْحَشِيشِ شِعَارَهُ وَغَدَا فَلَاحَ عَوَارُهُ وَخِمَارُهُ أَعْرَضْت عَنْ سُنَنِ الْهُدَى بِزَخَارِفَ لَمَّا اعْتَرَضْت لِمَا أُشِيعَ ضِرَارُهُ الْعَقْلُ يَنْهَى أَنْ تَمِيلَ إلَى الْهَوَى وَالشَّرْعُ يَأْمُرُ أَنْ تُبَعَّدَ دَارُهُ فَمَنْ ارْتَدَى بِرِدَاءِ زَهْرَةِ شَهْوَةٍ فِيهَا بَدَا لِلنَّاظِرِينَ خَسَارُهُ اُقْصُرْ وَتُبْ عَنْ شُرْبِهَا مُتَعَوِّذًا مِنْ شَرِّهَا فَهُوَ الطَّوِيلُ عِثَارُهُ .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَفِي أَكْلِهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مَضَرَّةً دِينِيَّةً وَدُنْيَوِيَّةً : مِنْهَا أَنَّهَا تُورِثُ الْفِكْرَةَ الرَّدِيئَةَ ، وَتُجَفِّفُ الرُّطُوبَاتِ الْغَرِيزِيَّةِ وَتُعَرِّضُ الْبَدَنَ لِحُدُوثِ الْأَمْرَاضِ ، وَتُورِثُ النِّسْيَانَ ، وَتُصَدِّعُ الرَّأْسَ وَتَقْطَعُ النَّسْلَ ، وَتُجَفِّفُ الْمَنِيَّ ، وَتُورِثُ مَوْتَ الْفَجْأَةِ وَاخْتِلَالَ الْعَقْلِ وَفَسَادَهُ ، وَالدَّقَّ ، وَالسُّلَّ وَالِاسْتِسْقَاءَ ، وَفَسَادَ الْفِكْرِ ، وَنِسْيَانَ الذِّكْرِ ، وَإِفْشَاءَ السِّرِّ ، وَإِنْشَاءَ الشَّرِّ ، وَذَهَابَ الْحَيَاءِ ، وَكَثْرَةَ الْمِرَاءِ ، وَعَدَمَ الْمُرُوءَةِ وَنَقْضَ الْمَوَدَّةِ ، وَكَشْفَ الْعَوْرَةِ ، وَعَدَمَ الْغَيْرَةِ ، وَإِتْلَافَ الْكِيسِ ، وَمُجَالَسَةَ إبْلِيسَ ، وَتَرْكَ الصَّلَوَاتِ ، وَالْوُقُوعَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ، وَالْبَرَصَ ، وَالْجُذَامَ ، وَتَوَالِيَ الْأَسْقَامِ ،

وَالرَّعْشَةَ عَلَى الدَّوَامِ ، وَثَقْبَ الْكَبِدِ ، وَاحْتِرَاقَ الدَّمِ وَالْبَخَرَ ، وَنَتْنَ الْفَمِ ، وَفَسَادَ الْأَسْنَانِ ، وَسُقُوطَ شَعْرِ الْأَجْفَانِ ، وَصُفْرَةَ الْأَسْنَانِ ، وَعِشَاءَ الْعَيْنِ وَالْفَشَلَ وَكَثْرَةَ النَّوْمِ وَالْكَسَلَ ، وَتَجْعَلُ الْأَسَدَ كَالْعِجْلِ ، وَتُعِيدُ الْعَزِيزَ ذَلِيلًا وَالصَّحِيحَ عَلِيلًا وَالشُّجَاعَ جَبَانًا وَالْكَرِيمَ مُهَانًا ، إنْ أَكَلَ لَا يَشْبَعُ وَإِنْ أُعْطِيَ لَا يَقْنَعُ ، وَإِنْ كُلِّمَ لَا يَسْمَعُ ، تَجْعَلُ الْفَصِيحَ أَبْكَمَ وَالذَّكِيَّ أَبْلَمَ ، وَتُذْهِبُ الْفَطِنَةَ ، وَتُحْدِثُ الْبِطْنَةَ ، وَتُورِثُ الْعُنَّةَ وَاللَّعْنَةَ وَالْبُعْدَ عَنْ الْجَنَّةِ .
وَمِنْ قَبَائِحِهَا أَنَّهَا تُنْسِي الشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، بَلْ قِيلَ إنَّ هَذَا أَدْنَى قَبَائِحِهَا .
وَهَذِهِ الْقَبَائِحُ كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْأَفْيُونِ وَغَيْرِهِ مِمَّا سَبَقَ ، بَلْ يَزِيدُ الْأَفْيُونُ وَنَحْوُهُ بِأَنَّ فِيهِ مَسْخًا لِلْخِلْقَةِ كَمَا يُشَاهَدُ مِنْ أَحْوَالِ آكِلِيهِ وَعَجِيبٌ ثُمَّ عَجِيبٌ مِمَّنْ يُشَاهِدُ مِنْ أَحْوَالِ آكِلِيهِ تِلْكَ الْقَبَائِحَ الَّتِي هِيَ مَسْخُ الْبَدَنِ وَالْعَقْلِ وَصَيْرُورَتُهُمْ إلَى أَخَسِّ حَالَةٍ وَأَرَثِّ هَيْئَةٍ وَأَقْذَرِ وَصْفٍ .
وَأَفْظَعِ مُصَابٍ لَا يَتَأَهَّلُونَ لِخِطَابٍ وَلَا يَمِيلُونَ قَطُّ إلَى صَوَابٍ وَلَا يَهْتَدُونَ إلَّا إلَى خَوَارِمِ الْمُرُوآت وَهُوَ أَذَمُّ الْكَمَالَاتِ وَفَوَاحِشُ الضَّلَالَاتِ ، ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْعَظَائِمِ الَّتِي نُشَاهِدُهَا مِنْهُمْ يُحِبُّ الْجَاهِلُ أَنْ يَنْدَرِجَ فِي زُمْرَتِهِمْ الْخَاسِرَةِ وَفُرْقَتِهِمْ الضَّالَّةِ الْحَائِرَةِ مُتَعَامِيًا عَمَّا عَلَى وُجُوهِهِمْ مِنْ الْغَبَرَةِ وَمَا يَعْتَرِيهَا مِنْ الْقَتَرَةِ ذَلِكَ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ ، فَمَنْ اتَّضَحَتْ لَهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْمَثَالِبُ وَبَانَ عِنْدَهُ مَا اشْتَمَلُوا عَلَيْهِ مِنْ كَثِيرِ الْمَعَايِبِ ثُمَّ نَحَا نَحْوَهُمْ وَحَذَا حَذْوَهُمْ فَهُوَ الْمَفْتُونُ الْمَغْبُونُ الَّذِي بَلَغَ الشَّيْطَانُ فِيهِ غَايَةَ أَمَلَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ، لِأَنَّهُ

لَعَنَهُ اللَّهُ إذَا أَحَلَّ عَبْدًا فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ لَعِبَ بِهِ كَمَا يَلْعَبُ الصَّبِيُّ بِالْكُرَةِ إذْ مَا يُرِيدُ مِنْهُ حِينَئِذٍ شَيْئًا إلَّا وَسَابَقَهُ إلَى فِعْلِهِ لِأَنَّ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْكَمَالِ زَالَ عَنْ مَحَلِّهِ فَصَارَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُوَ أَضَلُّ سَبِيلًا وَمِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ ، فَبِئْسَ مَا رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ مَبِيتًا وَمَقِيلًا وَأُفٍّ لِمَنْ بَاعَ نَعِيمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتِلْكَ الصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ ، وَفَّقْنَا اللَّهُ لِطَاعَتِهِ وَحَمَانَا مِنْ مُخَالَفَتِهِ آمِينَ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ وَبِهِ صَرَّحَ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُ كَالْخَمْرِ ، بَلْ بَالَغَ الذَّهَبِيُّ فَجَعَلَهَا كَالْخَمْرِ فِي النَّجَاسَةِ وَالْحَدِّ وَمَالَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا قَدَّمْته عَنْ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ .
قَالَ : وَهِيَ أَخْبَثُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُفْسِدُ الْعَقْلَ وَالْمِزَاجَ حَتَّى يَصِيرَ فِي مُتَعَاطِيهَا تَخْنِيثُ أَيْ ابْنَةٍ وَنَحْوِهَا وَدِيَاثَةٍ وَقِوَادَةٍ وَفَسَادٍ فِي الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ ، وَالْخَمْرُ أَخْبَثُ مِنْ جِهَةٍ أَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ كِلَاهُمَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ .
قَالَ : وَتَوَقَّفَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى الْحَدِّ فِيهَا وَرَأَى أَنَّ فِيهَا التَّعْزِيرَ لِأَنَّهَا تُغَيِّرُ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ طَرَبٍ كَالْبَنْجِ وَأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لِلْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا كَلَامًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ آكِلُوهَا يَحْصُلُ لَهُمْ نَشْوَةٌ وَاشْتِهَاءٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْثَرُ حَتَّى إنَّهُمْ لَا يَصْبِرُونَ عَنْهَا وَتَصُدُّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ، وَلِكَوْنِهَا جَامِدَةً مَطْعُومَةً تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي نَجَاسَتِهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ .
فَقِيلَ : هِيَ نَجِسَةٌ كَالْخَمْرِ الْمَشْرُوبَةِ وَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ ، وَقِيلَ : لَا لِجُمُودِهَا ، وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ جَامِدِهَا وَمَائِعِهَا ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ

وَرَسُولُهُ مِنْ الْخَمْرِ الْمُسْكِرِ لَفْظًا وَمَعْنًى ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ الْبِتْعُ وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ وَالْمِزْرُ وَهُوَ الذُّرَةُ وَالشَّعِيرُ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِيمِهِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } .
{ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } ، وَلَمْ يُفَرِّقْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ كَكَوْنِهِ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا ، عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ تُؤْكَلُ بِالْخُبْزِ وَالْحَشِيشَةُ قَدْ تُذَابُ وَتُشْرَبُ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا السَّلَفُ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِمْ ، وَقَدْ قِيلَ فِيهَا : فَآكِلُهَا وَزَاعِمُهَا حَلَالًا فَتِلْكَ عَلَى الشَّقِيِّ مُصِيبَتَانِ فَوَاَللَّهِ مَا فَرِحَ إبْلِيسٌ بِمِثْلِ فَرَحِهِ بِالْحَشِيشَةِ لِأَنَّهُ زَيَّنَهَا لِلْأَنْفُسِ الْخَسِيسَةِ فَاسْتَحَلُّوهَا وَاسْتَرْخَصُوهَا وَقَالُوا فِيهَا : قُلْ لِمَنْ يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ عِشْت فِي أَكْلِهَا بِأَقْبَحِ عِيشَهْ قِيمَةُ الْعَقْلِ بِدُرَّةٍ فَلِمَاذَا يَا أَخَا الْجَهْلِ بِعْته بِحَشِيشَهْ هَذَا كَلَامُ الذَّهَبِيِّ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالْحَدِّ ضَعِيفٌ كَمَا مَرَّ .

( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالسَّبْعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْمَسْفُوحُ أَوْ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ أَوْ الْمَيْتَةِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا فِي غَيْرِ مَخْمَصَةٍ ) قَالَ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ } وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ : { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ الْإِبَاحَةِ أَحَدَ عَشَرَ نَوْعًا : الْمَيْتَةُ ) : وَتَحْرِيمُهَا مُوَافِقٌ لِلْعُقُولِ لِأَنَّ الدَّمَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ جِدًّا ، فَإِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ حَتْفَ أَنْفِهِ احْتَبَسَ دَمُهُ فِي عُرُوقِهِ وَتَعَفَّنَ وَفَسَدَ وَحَصَلَ مِنْ أَكْلِهِ مَا لَا يَنْبَغِي ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا السَّمَكُ وَالْجَرَادُ لِحَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ بِهِمَا ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا { إنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ } .
فَإِذَا خَرَجَ جَنِينُ مُذَكَّاةٍ مَيِّتًا أَوْ بِهِ حَيَاةٌ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ حَلَّ تَبَعًا لَهَا وَإِنْ كَبِرَ وَكَانَ لَهُ شَعْرٌ ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا زَالَتْ حَيَاتُهُ لَا بِذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ ، فَدَخَلَ فِيهَا الْأَنْوَاعُ الْآتِيَةُ وَخَرَجَ مِنْهَا الْجَنِينُ الْمَذْكُورُ وَالصَّيْدُ إذَا مَاتَ بِالضَّغْطَةِ أَوْ ثِقَلٍ نَحْوِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا زَالَتْ حَيَاتُهُ بِذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إنْهَارُ دَمٍ .
( وَالدَّمُ ) : وَسَبَبُ تَحْرِيمِهِ نَجَاسَتُهُ أَيْضًا وَكَانُوا يَمْلَئُونَ الْمِعَى أَوْ الْمَبَاعِرَ مِنْ الدَّمِ وَيَشْوُونَهُ وَيُطْعِمُونَهُ الضَّيْفَ فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَنَجَاسَتِهِ ، نَعَمْ يُعْفَى عَمَّا يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ عَلَى

أَنَّهُ خَرَجَ بِالْمَسْفُوحِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الْمُفِيدَةِ لِإِطْلَاقِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا خَرَجَا بِالْمَسْفُوحِ أَيْضًا فَلَا اسْتِثْنَاءَ ، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ وَلَوْ غَيْرَ مَسْفُوحٍ .
وَرُدَّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِحِلِّ غَيْرِ الْمَسْفُوحِ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ .
( وَالْخِنْزِيرُ ) : وَسَبَبُ تَحْرِيمِهِ نَجَاسَتُهُ أَيْضًا .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَلِأَنَّ الْغِذَاءَ يَصِيرُ جَوْهَرًا مِنْ بَدَنِ الْمُتَغَذِّي فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ لِلْمُتَغَذِّي أَخْلَاقٌ وَصِفَاتٌ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ حَاصِلًا مِنْ الْغِذَاءِ ، وَالْخِنْزِيرُ مَطْبُوعٌ عَلَى أَخْلَاقٍ ذَمِيمَةٍ جِدًّا مِنْهَا الْحِرْصُ الْفَاحِشُ وَالرَّغْبَةُ الشَّدِيدَةُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ وَعَدَمُ الْغَيْرَةِ فَحُرِّمَ أَكْلُهُ عَلَى الْإِنْسَانِ لِئَلَّا يَتَكَيَّفَ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْقَبِيحَةِ ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا وَاظَبَ النَّصَارَى سِيَّمَا الْفِرِنْجُ عَلَى أَكْلِهِ أَوْرَثَهُمْ حِرْصًا عَظِيمًا وَرَغْبَةً شَدِيدَةً فِي الْمَنْهِيَّاتِ وَعَدَمَ الْغَيْرَةِ فَإِنَّهُ يَرَى الذَّكَرَ مِنْ جِنْسِهِ يَنْزُو عَلَى أُنْثَاهُ وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ لِعَدَمِ غَيْرَتِهِ بِخِلَافِ الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا ذَوَاتٌ عَارِيَّةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ ، فَلِذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِ أَكْلِهَا كَيْفِيَّةٌ خَارِجَةٌ عَنْ أَغْرَاضِهِ وَأَحْوَالِهِ ، وَإِنَّمَا خُصَّ لَحْمُهُ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَهُ حَرَامٌ لِأَنَّ لَحْمَهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الذَّاتِيُّ مِنْهُ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَلَا خِلَافَ أَنَّ جُمْلَةَ الْخِنْزِيرِ مُحَرَّمَةٌ إلَّا شَعْرُهُ فَيَجُوزُ الْخَرَزُ بِهِ انْتَهَى ، وَمَذْهَبُنَا جَوَازِ الْخَرَزِ بِهِ خِلَافًا لِمَنْ نَقَلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ تَحْرِيمَهُ ، وَخِنْزِيرُ الْمَاءِ مَأْكُولٌ عِنْدَنَا .

{ وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } : أَيْ ذُبِحَ عَلَى اسْمِ الصَّنَمِ ، إذْ الْإِهْلَالُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَمِنْهُ فُلَانٌ أَهَلَّ بِالْحَجِّ إذَا لَبَّى وَاسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ إذَا صَرَخَ حِينَ وِلَادَتِهِ ، وَالْهِلَالُ لِأَنَّهُ يُصْرَخُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَكَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ الذَّبْحِ بِاسْمِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ .
فَمَعْنَى { وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } وَمَا ذُبِحَ لِلطَّوَاغِيتِ وَالْأَصْنَامِ قَالَهُ جَمْعٌ ، وَقَالَ آخَرُونَ : يَعْنِي مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ .
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشَدُّ مُطَابَقَةً لِلَفْظِ الْآيَةِ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ لَوْ ذَبَحَ مُسْلِمٌ ذَبِيحَةً وَقَصَدَ بِذَبْحِهَا التَّقَرُّبَ بِهَا إلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ مُرْتَدًّا وَذَبِيحَتُهُ ذَبِيحَةُ مُرْتَدٍّ ، نَعَمْ ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ تَحِلُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } نَعَمْ إنْ ذَبَحُوهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ لَمْ تَحِلَّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَقَالَ جَمْعٌ تَحِلُّ مُطْلَقًا .
وَرُدَّ بِأَنَّ { وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } خَاصٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ اسْتَفْتَى فِي امْرَأَةٍ مُتْرَفَةٍ نَحَرَتْ جَزُورًا لِلَعِبِهَا فَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا لِأَنَّهَا ذُبِحَتْ لِصَنَمٍ .

( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) : وَهِيَ الَّتِي تَمُوتُ خَنْقًا بِأَنْ يُحْبَسَ نَفَسُهَا بِفِعْلِ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ إلَى أَنْ تَمُوتَ وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ يَخْنُقُونَ الْحَيَوَانَ فَإِذَا مَاتَ أَكَلُوهُ .
( وَالْمَوْقُوذَةُ ) : مِنْ وَقَذَهُ النُّعَاسُ أَيْ غَلَبَهُ وَكَأَنَّ الْمَادَّةَ دَالَّةٌ عَلَى سُكُونٍ وَاسْتِرْخَاءٍ ؛ فَالْمَوْقُوذَةُ هِيَ الَّتِي وُقِذَتْ أَيْ ضُرِبَتْ حَتَّى اسْتَرْخَتْ وَمَاتَتْ ، وَمِنْهَا الْمَقْتُولَةُ بِالْبُنْدُقِ فَهِيَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ .
وَالْمُنْخَنِقَةُ لِأَنَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ يَسِلْ دَمُهَا .

( وَالْمُتَرَدِّيَةُ ) : مِنْ تَرَدَّى أَيْ سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ عُلُوٍّ كَجَبَلٍ أَوْ شَجَرَةٍ عَلَى أَرْضٍ أَوْ فِي بِئْرٍ فَمَاتَتْ حُرِّمَتْ ، وَإِنْ أَصَابَهَا سَهْمٌ لِأَنَّهَا فِي الْأَوَّلِ لَمْ تَزُلْ حَيَاتُهَا بِمُحَدَّدٍ يَجْرَحُ وَيَسِيلُ بِسَبَبِهِ دَمُهَا ، وَفِي الثَّانِي شَارَكَ الْمُحَدَّدَ غَيْرُهُ فَآثَرَ غَيْرُهُ الْحُرْمَةَ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِلِّ كَمَا مَرَّ إزَالَةُ الْحَيَاةِ بِمَحْضِ مُحَدَّدٍ يَجْرَحُ .
( وَالنَّطِيحَةُ ) : الَّتِي نَطَحَتْهَا أُخْرَى فَهِيَ مَيْتَةٌ لِفَقْدِ سَيْلَانِ الدَّمِ وَدَخَلَتْ الْهَاءُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لِأَنَّهَا أَوْصَافٌ لِلشَّاةِ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مِنْ أَعَمِّ مَا يُؤْكَلُ ، وَالْكَلَامُ قَدْ يَخْرُجُ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْكُلُّ .
نَعَمْ كَانَ مِنْ حَقِّ النَّطِيحَةِ أَنْ لَا تَدْخُلُهَا هَاءٌ لِأَنَّ فَعِيلًا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ إلَّا أَنَّهَا لَمَّا جَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ خَرَجَتْ عَنْ قِيَاسِ فَعِيلٍ .

( وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ) : أَيْ أَكَلَ بَعْضَهُ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا جَرَحَ السَّبُعُ شَيْئًا فَقَتَلَهُ وَأَكَلَ بَعْضَهُ أَكَلُوا مَا بَقِيَ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاسْتُفِيدَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } : أَنَّ مَا أُدْرِكَ مِنْ الْمُنْخَنِقَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَبِهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ وَذُكِّيَ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا .

( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) : قِيلَ هِيَ الْحِجَارَةُ كَانُوا يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا فَعَلَى حِينَئِذٍ وَاضِحَةٌ ، وَقِيلَ هِيَ الْأَصْنَامُ ، تُنْصَبُ لِتَعَبُّدٍ فَعَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ لِأَجْلِهَا ، وَالتَّقْدِيرُ وَمَا ذُبِحَ عَلَى اعْتِقَادِ تَعْظِيمِهَا .
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ : { كَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ حَجَرًا مَنْصُوبَةً يَعْبُدُهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَيُعَظِّمُونَهَا وَيَذْبَحُونَ لَهَا وَلَيْسَتْ بِأَصْنَامٍ إنَّمَا الْأَصْنَامُ هِيَ الصُّورَةُ الْمَنْقُوشَةُ وَكَانُوا يُلَطِّخُونَهَا بِتِلْكَ الْأَدْمِيَةِ وَيَضَعُونَ اللَّحْمَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ الْبَيْتَ بِالدَّمِ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَهُ ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا } } .

وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ } النَّهْيُ عَمَّا كَانَ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَنَّ مَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ حَاجَةً أَيَّ حَاجَةٍ كَانَتْ جَاءَ إلَى سَادِنِ الْكَعْبَةِ ، وَكَانَ عِنْدَهُ سَبْعَةُ أَقْدَاحٍ مُسْتَوِيَةٍ مِنْ شَوْحَطٍ وَسُمِّيَتْ بِالْأَزْلَامِ لِأَنَّهَا زُلِّمَتْ : أَيْ سُوِّيَتْ ، وَكَانَ مَكْتُوبًا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا نَعَمْ وَآخَرَ لَا وَآخَرَ مِنْكُمْ وَآخَرَ مِنْ غَيْرِكُمْ : أَيْ التَّزَوُّجُ ، وَآخَرَ مُلْصَقٌ أَيْ النَّسَبُ وَآخَرَ عَقْلٌ : أَيْ دِيَةٌ وَآخَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَرَادُوا أَمْرًا أَوْ اخْتَلَفُوا فِي نَسَبٍ أَوْ تَحَمُّلِ دِيَةٍ جَاءُوا إلَى هُبَلَ أَعْظَمِ أَصْنَامِهِمْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَجَزُورٍ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ حَتَّى يُجِيلَهَا لَهُمْ ، وَيَقُولُونَ يَا آلِهَتَنَا إنَّا أَرَدْنَا كَذَا وَكَذَا ، فَمَا خَرَجَ فَعَلُوا بِقَضِيَّتِهِ ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَحَرَّمَهُ ، وَقَالَ { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } وَوَجْهُ ذِكْرِهَا مَعَ هَذِهِ الْمَطَاعِمِ أَنَّهَا كَانَتْ تُرْفَعُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَعَهَا .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَسُمِّيَ ذَلِكَ اسْتِقْسَامًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ الرِّزْقَ وَمَا يُرِيدُونَ ، وَنَظِيرُ هَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ قَوْلُ الْمُنَجِّمِ لَا تَخْرُجْ مِنْ أَجْلِ نَجْمِ كَذَا .
وَاخْرُجْ مِنْ أَجْلِ نَجْمِ كَذَا .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ : الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْقِمَارُ .
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْأَزْلَامُ حَصًا بِيضٌ كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا ، وَمُجَاهِدٌ هِيَ كِعَابُ فَارِسٍ وَالرُّومِ يَتَقَامَرُونَ بِهَا .
وَالشَّعْبِيُّ : الْأَزْلَامُ لِلْعَرَبِ ، وَالْكِعَابُ لِلْعَجَمِ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ هُوَ ظَاهِرُ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا فِسْقًا إذْ قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } يَرْجِعُ لِلْجَمِيعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا .
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ إنَّهُ يَرْجِعُ لِمَا وَلِيَهُ فَقَطْ ، فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ ، إذْ الْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ قَاضِيَةٌ بِرُجُوعِهِ لِلْكُلِّ ، فَلَا وَجْهَ

لِلتَّخْصِيصِ بِالْبَعْضِ ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالدَّمِ ، وَقَدْ عَلِمْت قِيَامَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِهِ أَكْلُ نَجَاسَةٍ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا تَعَدِّيًا ، ثُمَّ رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِهِ الْآتِيَ قَرِيبًا .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالسَّبْعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : إحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ ) لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنِّي كُنْت أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا بِالنَّارِ وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا } .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرْيَةَ نَمْلٍ - أَيْ مَكَانَهُ - قَدْ حَرَقْنَاهَا ، فَقَالَ : مَنْ حَرَقَ هَذِهِ ؟ قُلْنَا : نَحْنُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً عَلَى إطْلَاقِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا هُوَ مَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ صَاحِبِ الْعُدَّةِ .
وَتَوَقَّفَ الرَّافِعِيُّ فِي إطْلَاقِهِ وَتَبِعَهُ الْأَذْرَعِيُّ فَقَالَ قَوْلُ صَاحِبِ الْعُدَّةِ وَإِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ فِي إطْلَاقِهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ أَحْرَقَ قَمْلَةً أَوْ بُرْغُوثًا أَوْ نَحْوَهُمَا بِأَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ فَاسِقًا فِيهِ بُعْدٌ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَرِّقُ عَالِمًا بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِهِ انْتَهَى ، وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ فِي الْخَادِمِ فَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ ثُمَّ قَالَ : نَعَمْ إنْ لَمْ يُمْكِنْ قَتْلُهُ إلَّا بِهَا فَذَاكَ ا هـ .
وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : وَفِيمَا ذَكَرَهُ فِي الْإِحْرَاقِ نَظَرٌ وَالْوَجْهُ الْأَخْذُ بِالْإِطْلَاقِ ، وَيُوَافِقُهُ جَرَيَانُ جَمَاعَةٍ مُتَأَخِّرِينَ عَلَى عَدِّ ذَلِكَ مَعَ إطْلَاقِهِ كَبِيرَةً وَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى تَوَقُّفِ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيُّ نَعَمْ إلَخْ صَرَّحَ بِهِ غَيْرُهُ أَيْضًا وَشَرَطَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَفْعَهُ عَنْهُ إلَّا بِقَتْلِهِ ، وَهُوَ مُرَادُ الزَّرْكَشِيّ بِقَوْلِهِ : إنْ لَمْ يُمْكِنْ بِقَتْلِهِ ، إلَّا بِهَا .
قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَلَمْ يَعْتَرِضْ النَّوَوِيُّ الرَّافِعِيَّ فِي تَوَقُّفِهِ السَّابِقِ فَكَأَنَّهُ

ارْتَضَاهُ ، وَيَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ الْفَوَاسِقُ الْخَمْسُ إذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِإِزَالَةِ ضَرَرِهِنَّ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ الْآدَمِيِّ وَالْحَيَوَانِ وَلَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ فَقَدْ يُجْزَمُ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً لِخَبَرِ مُسْلِمٍ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ { مَرَّ بِنَفَرٍ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَتَرَامَوْنَهَا فَلَمَّا رَأَوْهُ تَفَرَّقُوا عَنْهَا ، فَقَالَ : مَنْ فَعَلَ هَذَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا } ؛ وَالتَّعْذِيبُ بِالنَّارِ كَالتَّعْذِيبِ بِاِتِّخَاذِهَا غَرَضًا أَوْ أَشَدَّ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ : { إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا } ، وَفِي رِوَايَةٍ : { يُعَذِّبُونَ النَّاسَ } وَالْأُولَى أَعَمُّ ، قَالَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى قَوْمًا يُعَذِّبُونَ بِالشَّمْسِ فَمَا الظَّنُّ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ .

( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالسَّبْعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : تَنَاوُلُ النَّجَسِ وَالْمُسْتَقْذَرِ وَالْمُضِرِّ ) وَعَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَيُسْتَدَلُّ فِي الْأُولَى بِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهَا هُوَ قِيَاسُ مَا مَرَّ فِي الْمَيْتَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُحَرَّمْ لِضَرَرِهَا بَلْ لِنَجَاسَتِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَإِذَا حُرِّمَتْ لِنَجَاسَتِهَا وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى فِسْقًا فَيَلْحَقُ بِهَا فِي ذَلِكَ كُلُّ نَجَاسَةٍ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهَا ، فَظَهَرَ وَجْهُ عَدِّ هَذِهِ كَبِيرَةً .
وَفِي الثَّانِيَةِ بِأَنَّ الْمُسْتَقْذَرَ كَالْمُخَاطِ وَالْمَنِيِّ يَلْحَقُ بِالنَّجَاسَةِ فِي تَلْطِيخِ نَحْوِ الْمُصْحَفِ كَمَا مَرَّ فِي الْكَبِيرَةِ الْأُولَى أَوَّلَ الْكِتَابِ فَلَا بُعْدَ فِي إلْحَاقِهِ بِهَا هُنَا ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَالْحُكْمُ فِيهَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ تَنَاوُلَ الْمُضِرِّ مُفْسِدٌ لِلْبَدَنِ أَوْ الْعَقْلِ وَذَلِكَ عَظِيمُ الْإِثْمِ وَالْوِزْرِ ، وَكَمَا أَنَّ إضْرَارَ الْغَيْرِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ كَبِيرَةً فَكَذَا إضْرَارُ النَّفْسِ بَلْ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ أَهَمُّ مِنْ حِفْظِ الْغَيْرِ .
فَرْعٌ : ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُ طَاهِرٍ مُضِرٍّ بِالْبَدَنِ كَالطِّينِ وَالسُّمِّ كَالْأَفْيُونِ إلَّا الْقَلِيلَ مِنْ ذَلِكَ لِحَاجَةِ التَّدَاوِي مَعَ غَلَبَةِ السَّلَامَةِ أَوْ بِالْعَقْلِ كَنَبَاتٍ مُسْكِرٍ غَيْرِ مُطْرِبٍ ، وَلَهُ التَّدَاوِي بِهِ وَإِنْ أَسْكَرَ إنْ تَعَيَّنَ بِأَنْ قَالَ لَهُ طَبِيبَانِ عَدْلَانِ لَا يَنْفَعُ عِلَّتُك غَيْرُهُ ، وَلَوْ شَكَّ فِي نَبَاتٍ هَلْ هُوَ سُمٍّ أَمْ غَيْرُهُ أَوْ فِي نَحْوِ لَبَنٍ هَلْ هُوَ مَأْكُولٌ أَوْ غَيْرُهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ ، وَلَوْ وَقَعَ نَحْوُ ذُبَابٍ فِي نَحْوِ طَبِيخٍ وَتُهُرِّئَ فِيهِ حَلَّ أَكْلُهُ أَوْ نَحْوُ طَائِرٍ أَوْ جُزْءِ آدَمِيٍّ لَمْ يَحِلَّ وَإِنْ تُهُرِّئَ ، وَلَوْ وَجَدَ نَجَاسَةً فِي طَعَامٍ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُمُودُ وَشَكَّ هَلْ وَقَعَتْ فِيهِ مَائِعًا أَوْ جَامِدًا حَلَّ تَنَاوُلُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ

وُقُوعَهَا فِيهِ جَامِدًا فَيَنْزِعُهَا وَمَا حَوْلَهَا فَقَطْ ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ مَائِعًا ، وَيَحْرُمُ الدِّرْيَاقُ الْمَخْلُوطُ بِلَحْمِ الْحَيَّاتِ إلَّا لِضَرُورَةٍ تُجَوِّزُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ ، وَلَوْ عَمَّ الْحَرَامُ أَرْضًا وَلَمْ يَبْقَ بِهَا حَلَالٌ وَتُوُقِّعَ مَعْرِفَةُ أَرْبَابِهِ جَازَ تَنَاوُلُ قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْهُ دُونَ التَّنَعُّمِ وَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الضَّرُورَةِ .
خَاتِمَةٌ : الْحَيَوَانُ إمَّا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ كَحَيَّةٍ وَعَقْرَبٍ وَفَأْرَةٍ وَحِدَأَةٍ وَكَلْبٍ عَقُورٍ وَغُرَابٍ غَيْرِ زَاغٍ وَذِئْبٍ وَأَسَدٍ وَنَمِرٍ وَسَائِرِ السِّبَاعِ وَدُبٍّ وَنَسْرٍ وَعُقَابٍ وَبُرْغُوثٍ وَنَمْلٍ صَغِيرٍ وَوَزَغٍ وَسَامٍّ أَبْرَصَ وَبَقٍّ وَزُنْبُورٍ ، فَهَذِهِ كُلُّهَا وَنَحْوُهَا يُسَنُّ قَتْلُهَا وَلَوْ لِمُحْرِمٍ فِي الْحَرَمِ .
وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ وَيَضُرُّ كَفَهْدٍ وَصَقْرٍ وَبَازٍ فَلَا يُسَنّ قَتْلُهُ لِنَفْعِهِ وَلَا يُكْرَهُ لِضَرِّهِ .
وَأَمَّا مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ كَخُنْفُسَاءَ وَجُعَلٍ وَسَرَطَانٍ وَرَخَمَةٍ فَيُكْرَهُ قَتْلُهُ ، نَعَمْ الْكَلْبُ الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ وَقَعَ فِي حِلِّ قَتْلِهِ تَنَاقُضٌ ، وَالْمُعْتَمَدُ حُرْمَتُهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ بِأَنَّ تِلْكَ فِي حُكْمِ الْحَشَرَاتِ فَاغْتُفِرَ فِيهَا مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا ؛ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُمْ هُنَا يَحْرُمُ قَتْلُ النَّمْلِ الْكَبِيرِ مَعَ أَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ .
قَالُوا : وَيَحْرُمُ أَيْضًا قَتْلُ النَّحْلِ وَالْخُطَّافِ وَالصُّرَدِ وَالضِّفْدَعِ وَكَلْبِ نَحْوِ الصَّيْدِ أَوْ الْحِرَاسَةِ وَلَوْ أَسْوَدَ .

الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالسَّبْعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : بَيْعُ الْحُرِّ ) أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ثَلَاثٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْته : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ صَرِيحُ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ .
قَالَ الطَّحَاوِيُّ : وَكَانَ الْحُرُّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالُ يَقْضِيهِ بِهِ حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } وَلَمْ يَقُلْ قَوْمٌ بِالنَّسْخِ ، بَلْ قَالُوا إنَّ ذَلِكَ بَاقٍ إلَى الْآنَ لِمَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَالَ : { كَانَ لِرَجُلٍ عَلَيَّ مَالٌ أَوْ قَالَ دَيْنٌ فَذَهَبَ بِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُصِبْ لِي مَالًا فَبَاعَنِي مِنْهُ أَوْ بَاعَنِي لَهُ } وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ .

( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالسَّبْعُونَ وَالثَّمَانُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالثَّمَانُونَ ، وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : أَكْلُ الرِّبَا وَإِطْعَامُهُ وَكِتَابَتُهُ وَشَهَادَتُهُ وَالسَّعْيُ فِيهِ وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ } ثُمَّ قَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ عُقُوبَةِ أَكْلِ الرِّبَا ، وَيَنْكَشِفُ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ عَلَى بَعْضِهَا بِاخْتِصَارٍ ، فَالرِّبَا لُغَةً الزِّيَادَةُ وَشَرْعًا عَقْدٌ عَلَى عِوَضٍ مَخْصُوصٍ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّمَاثُلِ فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ حَالَةَ الْعَقْدِ أَوْ مَعَ تَأْخِيرٍ فِي الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : رِبَا الْفَضْلِ : وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ زِيَادَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ الْمُتَّفِقَيْ الْجِنْسِ عَلَى الْآخَرِ .
وَرِبَا الْيَدِ : وَهُوَ

الْبَيْعُ مَعَ تَأْخِيرِ قَبْضِهِمَا أَوْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا عَنْ التَّفَرُّقِ مِنْ الْمَجْلِسِ أَوْ التَّخَايُرِ فِيهِ بِشَرْطِ اتِّحَادِهِمَا عِلَّةً بِأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَطْعُومًا أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا نَقْدًا وَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ .
وَرِبَا النَّسَاءِ : وَهُوَ الْبَيْعُ لِلْمَطْعُومِينَ أَوْ لِلنَّقْدَيْنِ الْمُتَّفِقَيْ الْجِنْسِ أَوْ المختلفية لِأَجَلٍ وَلَوْ لَحْظَةً وَإِنْ اسْتَوَيَا وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ .
فَالْأَوَّلُ : كَبَيْعِ صَاعِ بُرٍّ بِدُونِ صَاعِ بُرٍّ أَوْ بِأَكْثَرَ أَوْ دِرْهَمِ فِضَّةٍ بِدُونِ دِرْهَمِ فِضَّةٍ أَوْ بِأَكْثَرَ سَوَاءٌ أَتَقَابَضَا أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ أَجَّلَا أَمْ لَا .
وَالثَّانِي : كَبَيْعِ صَاعِ بُرٍّ بِصَاعِ بُرٍّ ، أَوْ دِرْهَمِ ذَهَبٍ بِدِرْهَمِ ذَهَبٍ ، أَوْ صَاعِ بُرٍّ بِصَاعِ شَعِيرٍ أَوْ أَكْثَرَ ، أَوْ دِرْهَمِ ذَهَبٍ بِدِرْهَمِ فِضَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ ، لَكِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ التَّخَايُرِ .
الثَّالِثُ : كَبَيْعِ صَاعِ بُرٍّ بِصَاعِ بُرٍّ أَوْ دِرْهَمِ فِضَّةٍ بِدِرْهَمِ فِضَّةٍ ، لَكِنْ مَعَ تَأْجِيلِ أَحَدِهِمَا وَلَوْ إلَى لَحْظَةٍ وَإِنْ تَسَاوَيَا وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّهُ مَتَى أَسْتَوَى الْعِوَضَانِ جِنْسًا وَعِلَّةً كَبُرٍّ بِبُرٍّ أَوْ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ اُشْتُرِطَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : التَّسَاوِي وَعِلْمُهُمَا بِهِ يَقِينًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْحُلُولُ ، وَالتَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، وَمَتَى اخْتَلَفَا جِنْسًا وَاتَّحَدَا عِلَّةً كَبُرٍّ بِشَعِيرٍ أَوْ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ اُشْتُرِطَ شَرْطَانِ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ وَجَازَ التَّفَاضُلُ ، وَمَتَى اخْتَلَفَا جِنْسًا وَعِلَّةً كَبُرٍّ بِذَهَبٍ أَوْ ثَوْبٍ لَمْ يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ؛ فَالْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ هُنَا إمَّا الطَّعْمُ بِأَنْ يَقْصِدَ الشَّيْءَ لِلِاقْتِيَاتِ أَوْ الْأَدَمِ أَوْ التَّفَكُّهِ أَوْ التَّدَاوِي .
وَأَمَّا النَّقْدِيَّةُ : وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَضْرُوبَةً وَغَيْرَهَا فَلَا رِبَا فِي الْفُلُوسِ وَإِنْ رَاجَتْ ، وَزَادَ الْمُتَوَلِّي نَوْعًا رَابِعًا وَهُوَ رِبَا الْقَرْضِ ، لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ

يَرْجِعُ إلَى رِبَا الْفَضْلِ لِأَنَّهُ الَّذِي فِيهِ شَرْطٌ يَجُرُّ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ فَكَأَنَّهُ أَقْرَضَهُ هَذَا الشَّيْءَ بِمِثْلِهِ مَعَ زِيَادَةِ ذَلِكَ النَّفْعِ الَّذِي عَادَ إلَيْهِ ، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ بِنَصِّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ ، وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي الرِّبَا مِنْ الْوَعِيدِ شَامِلٌ لِلْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ ، نَعَمْ بَعْضُهَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَبَعْضُهَا تَعَبُّدِيٌّ ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ هُوَ الَّذِي كَانَ مَشْهُورًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْفَعُ مَالَهُ لِغَيْرِهِ إلَى أَجَلٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ قَدْرًا مُعَيَّنًا وَرَأْسُ الْمَالِ بَاقٍ بِحَالِهِ ، فَإِذَا حَلَّ طَالِبُهُ بِرَأْسِ مَالِهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ زَادَ فِي الْحَقِّ وَالْأَجَلِ ، وَتَسْمِيَةُ هَذَا نَسِيئَةً مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ رِبَا الْفَضْلِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّسِيئَةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فِيهِ بِالذَّاتِ وَهَذَا النَّوْعُ مَشْهُورٌ الْآنَ بَيْنَ النَّاسِ وَوَاقِعٌ كَثِيرًا .
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يُحَرِّمْ إلَّا رِبَا النَّسِيئَةِ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَهُمْ فَيَنْصَرِفُ النَّصُّ إلَيْهِ ، لَكِنْ صَحَّتْ الْأَحَادِيثُ بِتَحْرِيمِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ مِنْ غَيْرِ مَطْعَنٍ وَلَا نِزَاعٍ لِأَحَدٍ فِيهَا ، وَمِنْ ثَمَّ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا قَالَ لَهُ أُبَيٌّ أَشَهِدْت مَا لَمْ نَشْهَدْ أَسَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ نَسْمَعْ ثُمَّ رَوَى لَهُ الْحَدِيثَ الصَّرِيحَ فِي تَحْرِيمِ الْكُلِّ ثُمَّ قَالَ لَهُ : لَا آوَانِي وَإِيَّاكَ ظِلُّ بَيْتٍ مَا دُمْت عَلَى هَذَا فَحِينَئِذٍ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : كُنَّا فِي بَيْتِ عِكْرِمَةَ .
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : { أَمَا تَذْكُرُ وَنَحْنُ بِبَيْتِ فُلَانٍ وَمَعَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إنَّمَا كُنْت اسْتَحْلَلْت الصَّرْفَ بِرَأْيِي ، ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهُ فَاشْهَدُوا أَنِّي حَرَّمْته وَبَرِئْت إلَى اللَّهِ مِنْهُ } .
وَأَبْدَوْا لِتَحْرِيمِ الرِّبَا أُمُورًا غَيْرَ مَطْرَدَةٍ فِي كُلِّ أَنْوَاعِهِ ، وَمِنْ ثَمَّ قُلْت فِيمَا مَرَّ إنَّ بَعْضَهُ تَعَبُّدِيٌّ : مِنْهَا : أَنَّهُ إذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً أَخَذَ فِي الْأَوَّلِ زِيَادَةً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ، وَحُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ وَكَذَا فِي الثَّانِي لِأَنَّ انْتِفَاعَ الْأَخْذِ بِالدِّرْهَمِ الزَّائِدِ أَمْرٌ مَوْهُومٌ ، فَمُقَابَلَةُ هَذَا الِانْتِفَاعِ الْمَوْهُومِ بِدِرْهَمٍ زَائِدٍ فِيهِ ضَرَرٌ أَيُّ ضَرَرٍ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَوْ حَلَّ رِبَا الْفَضْلِ لَبَطَلَتْ الْمَكَاسِبُ وَالتِّجَارَاتُ إذْ مَنْ يُحَصِّلُ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ كَيْفَ يَتَجَشَّمُ مَشَقَّةَ كَسْبٍ أَوْ تِجَارَةٍ وَبِبُطْلَانِهِمَا تَنْقَطِعُ مَصَالِحُ الْخَلْقِ ، إذْ مَصَالِحُ الْعَالَمِ لَا تَنْتَظِمُ إلَّا بِالتِّجَارَاتِ وَالْعِمَارَاتِ وَالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ الرِّبَا يُفْضِي إلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ الَّذِي فِي الْقَرْضِ إذْ لَوْ حَلَّ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ مَا سَمَحَ أَحَدٌ بِإِعْطَاءِ دِرْهَمٍ بِمِثْلِهِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ الْغَالِبَ غِنَى الْمُقْرِضِ وَفَقْرُ الْمُسْتَقْرِضِ ، فَلَوْ مُكِّنَ الْغَنِيُّ مِنْ أَخْذِ أَكْثَرَ مِنْ الْمِثْلِ أَضَرَّ بِالْفَقِيرِ وَلَمْ يُلْقَ بِرَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

وقَوْله تَعَالَى : { لَا يَقُومُونَ } إلَخْ : أَيْ لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ { إلَّا كَمَا يَقُومُ } أَيْ مِثْلُ قِيَامِ { الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ } أَيْ يَصْرَعُهُ الشَّيْطَانُ ، مِنْ خَبْطِ الْبَعِيرِ بِأَخْفَافِهِ إذَا ضَرَبَ الْأَرْضَ بِهَا { مِنْ الْمَسِّ } أَيْ مِنْ أَجْلِ مَسِّهِ لَهُ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْجُنُونِ ، فَإِذَا بَعَثَ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَرَجُوا مُسْرِعِينَ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَّا أَكَلَةَ الرِّبَا فَإِنَّهُمْ كُلَّمَا قَامُوا سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَجَنُوبِهِمْ وَظُهُورِهِمْ ، كَمَا أَنَّ الْمَصْرُوعَ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ ، وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَكَلُوا هَذَا الْحَرَامَ السُّحْتَ بِوَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَمُحَارَبَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ رَبَا فِي بُطُونِهِمْ وَزَادَ حَتَّى أَثْقَلَهَا ، فَلِذَلِكَ عَجَزُوا عَنْ النُّهُوضِ مَعَ النَّاسِ وَصَارُوا كُلَّمَا أَرَادُوا الْإِسْرَاعَ مَعَ النَّاسِ وَنَهَضُوا سَقَطُوا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْقَبِيحِ وَتَخَلَّفُوا عَنْهُمْ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّارَ الَّتِي تَحْشُرُهُمْ إلَى الْمَوْقِفِ كُلَّمَا سَقَطُوا وَتَخَلَّعُوا أَكَلَتْهُمْ وَزَادَ عَذَابُهُمْ بِهَا ، فَجَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الذَّهَابِ إلَى الْمَوْقِفِ عَذَابَيْنِ عَظِيمَيْنِ ذَلِكَ التَّخَبُّطُ وَالسُّقُوطُ فِي ذَهَابِهِمْ ، وَلَفْحُ النَّارِ وَأَكْلُهَا لَهُمْ وَسَوْقُهَا إيَّاهُمْ بِعُنْفٍ حَتَّى يَصِيرُوا إلَى الْمَوْقِفِ فَيَكُونُونَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ التَّخَبُّطِ لِيَمْتَازُوا وَيَشْتَهِرُوا بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ : إنَّ آكِلَ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا وَذَلِكَ عَلَمٌ لِأَكَلَةِ الرِّبَا يَعْرِفُهُمْ بِهِ أَهْلُ الْمَوْقِفِ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ بُطُونُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ قَدْ مَالَتْ بِهِمْ بُطُونُهُمْ مُنَضَّدِينَ عَلَى سَابِلَةٍ : أَيْ طَرِيقِ - آلِ فِرْعَوْنَ - وَآلُ فِرْعَوْنَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا

وَعَشِيًّا .
قَالَ : فَيُقْبِلُونَ مِثْلَ الْإِبِلِ الْمُنْهَزِمَةِ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ ، فَإِذَا حَسَّ بِهِمْ أَصْحَابُ تِلْكَ الْبُطُونِ قَامُوا فَتَمِيلُ بِهِمْ بُطُونُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَبْرَحُوا حَتَّى يَغْشَاهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ فَيُؤْذُونَهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ فَذَلِكَ عَذَابُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَمَّا عُرِجَ بِي سَمِعْتُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَوْقَ رَأْسِي رَعْدًا وَصَوَاعِقَ ، وَرَأَيْتُ رِجَالًا بُطُونُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ تُرَى مِنْ ظَاهِرِ بُطُونِهِمْ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا } .
وَسَيَأْتِي هَذَانِ فِي الْأَحَادِيثِ مَعَ حَدِيثِ : { إيَّاكَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لَا تُغْفَرُ : الْغُلُولُ ، فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ } .
وَخَبَرُ : { يَأْتِي آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخَبَّلًا يَجُرُّ شِقَّيْهِ ثُمَّ قَرَأَهَا أَيْضًا } .
وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِطُولِهِ أَوَّلَ كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ آكِلَ الرِّبَا يُعَذَّبُ مِنْ حِينَ يَمُوتُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالسِّبَاحَةِ فِي نَهْرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ وَأَنَّهُ يُلْقَمُ الْحِجَارَةَ كُلَّمَا أَلْقَمَهُ حَجَرًا سَبَّحَ بِهِ ثُمَّ عَادَ فَاغِرًا فَاهُ فَيُلْقَمُ حَجَرًا آخَرَ وَهَكَذَا إلَى الْبَعْثِ ، وَتِلْكَ الْحِجَارَةُ هِيَ نَظِيرُ الْمَالِ الْحَرَامِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الدُّنْيَا فَيُلْقَمُ تِلْكَ الْحِجَارَةَ النَّارِيَّةَ وَيُعَذَّبُ بِهَا كَمَا حَازَ ذَلِكَ الْمَالَ الْحَرَامَ وَابْتَلَعَهُ ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ أَنْوَاعُ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُ .
وقَوْله تَعَالَى :

{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } إلَخْ أَيْ أَذَاقَهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ الَّذِي حَكَّمُوا فِيهِ قِيَاسَ عُقُولِهِمْ الْقَاصِرَةِ حَتَّى قَدَّمُوهُ عَلَى النَّصِّ { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } جَاعِلِينَ الرِّبَا هُوَ الْأَصْلَ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ مُبَالَغَةً فِي حِلِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي تَخَيَّلُوهُ أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ شِرَاءُ شَيْءٍ بِعَشْرَةٍ ثُمَّ بَيْعُهُ بِأَحَدَ عَشَرَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا يَجُوزُ بَيْعُ عَشْرَةٍ بِأَحَدَ عَشَرَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا ، إذْ لَا فَرْقَ عَقْلًا بَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ مَعَ حُصُولِ التَّرَاضِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَغَفَلُوا عَنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَدَّ لَنَا حُدُودًا ، وَنَهَانَا عَنْ مُجَاوَزَتِهَا ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا امْتِثَالُ ذَلِكَ لِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُقَابَلُ بِقَضِيَّةِ رَأْيٍ وَلَا عَقْلٍ ، بَلْ يَجِبُ قَبُولُهَا سَوَاءٌ أَفَهِمْنَا لَهَا مَعْنًى مُنَاسِبًا أَمْ لَا .
إذْ هَذَا هُوَ شَأْنُ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ .
وَالْعَبْدُ الضَّعِيفُ الْعَاجِزُ الْقَاصِرُ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَالرَّأْيِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الِاسْتِسْلَامُ لِأَوَامِرِ سَيِّدِهِ الْقَوِيِّ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْمُنْتَقِمِ الْجَبَّارِ الْعَزِيزِ الْقَهَّارِ ، وَمَتَى حَكَّمَ عَقْلُهُ ، وَعَارَضَ بِهِ أَمْرَ سَيِّدِهِ انْتَقَمَ مِنْهُ وَأَهْلَكَهُ بِعَذَابِهِ الشَّدِيدِ { إنَّ بَطْشَ رَبِّك لَشَدِيدٌ } { إنَّ رَبَّك لَبِالْمِرْصَادِ } .
وقَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ } أَيْ وَاصِلَةٌ إلَيْهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ مَوَاعِظِ رَبِّهِ { فَانْتَهَى } أَيْ رَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ الرِّبَا فَوْرًا عَقِبَ الْمَوْعِظَةِ { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أَيْ سَبَقَ مِمَّا أَخَذَهُ بِالرِّبَا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ تَحْرِيمِهِ ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِهِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ تَحْرِيمِهِ ، فَإِنَّ مَنْ تَابَ مِنْهُ يَلْزَمُهُ رَدُّ جَمِيعِ مَا أَخَذَهُ بِالرِّبَا ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ

التَّحْرِيمَ لَبُعْدِهِ عَنْ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ تَعَاطَاهُ وَقْتَ التَّكْلِيفِ بِهِ وَالْجَهْلِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ صَاحِبُهُ إنَّمَا يُؤْثِرُ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ دُونَ الْغَرَامَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ { وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } أَيْ أَمْرُ مَا سَلَفَ ، أَوْ الْمُنْتَهِي عَنْ الرِّبَا أَوْ الرِّبَا إلَى اللَّهِ فِي الْعَفْوِ وَعَدَمِهِ ، أَوْ فِي اسْتِمْرَارِ تَحْرِيمِ الرِّبَا ؛ ثُمَّ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وُجُوهٌ لِلْمُفَسِّرِينَ .
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ : وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ تَرَكَ اسْتِحْلَالَ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّهُ تَرَكَ أَكْلَهُ أَمْ لَا : أَيْ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَأْتِي آخِرِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ تَرَكَ اسْتِحْلَالَهُ مَعَ تَعَاطِيهِ لَهُ ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى { فَانْتَهَى } أَيْ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ سَابِقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } مِنْ تَحْلِيلِهِ .
وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أَيْ عَادَ إلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } ثُمَّ إذَا انْتَهَى عَنْ اسْتِحْلَالِهِ ، فَإِمَّا أَنَّهُ انْتَهَى عَنْ أَكْلِهِ أَيْضًا وَلَيْسَ مُرَادًا لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِهِ الْمَدْحُ ، أَوْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ أَكْلِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ لِحُرْمَتِهِ ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ، { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } أَيْ مُعَامَلَةً لِفَاعِلِيهِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ فَإِنَّهُمْ آثَرُوهُ تَحْصِيلًا لِلزِّيَادَةِ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ يُغْضِبُ اللَّهَ تَعَالَى ، فَمَحَقَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بَلْ وَالْمَالَ مِنْ أَصْلِهِ حَتَّى صَيَّرَ عَاقِبَتَهُمْ إلَى الْفَقْرِ الْمُدْقِعِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ أَكْثَرِ مَنْ يَتَعَاطَاهُ ، وَبِفَرْضِ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى غُرَّةٍ يَمْحَقُهُ اللَّهُ مِنْ

أَيْدِي وَرَثَتِهِ فَلَا يَمُرُّ عَلَيْهِمْ أَدْنَى زَمَانٍ إلَّا وَقَدْ صَارُوا بِغَايَةِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَالْهَوَانِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِلَى قُلٍّ } .
وَمِنْ الْمُحِقِّ أَيْضًا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ الذَّمِّ وَالْبُغْضِ ، وَسُقُوطِ الْعَدَالَةِ ، وَزَوَالِ الْأَمَانَةِ ، وَحُصُولِ اسْمِ الْفِسْقِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ .
وَأَيْضًا فَدُعَاءُ مَنْ ظُلِمَ بِأَخْذِ مَالِهِ عَلَيْهِ بِاللَّعْنَةِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ ، إذْ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ : أَيْ كِنَايَةٌ عَنْ قَبُولِهَا .
وَلِهَذَا وَرَدَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَظْلُومِ إذَا دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ } .
وَأَيْضًا فَمَنْ اشْتَهَرَ أَنَّهُ جَمَعَ مَالًا مِنْ رِبًا تَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْمِحَنُ الْكَثِيرَةُ مِنْ الظَّلَمَةِ وَاللُّصُوصِ وَغَيْرِهِمْ ، زَاعِمِينَ أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ ، هَذَا كُلُّهُ مَحْقُ الدُّنْيَا .
وَأَمَّا مَحْقُ الْآخِرَةِ .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَدَقَةٌ وَلَا جِهَادٌ وَلَا حَجٌّ وَلَا صِلَةٌ " .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ كُلَّهُ وَعَلَيْهِ عُقُوبَتُهُ وَتَبَعَتُهُ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ بِسَبَبِهِ .
وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ : { مُصِيبَتَانِ لَنْ يُصَابَ أَحَدٌ بِمِثْلِهِمَا أَنْ تَتْرُكَ مَالَك كُلَّهُ وَتُعَاقَبَ عَلَيْهِ كُلَّهُ } .
وَأَيْضًا صَحَّ أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْفُقَرَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْأَغْنِيَاءِ بِالْمَالِ الْحَلَالِ الْمَحْضِ ، فَمَا ظَنُّك بِذِي الْمَالِ الْحَرَامِ السُّحْتِ ، فَذَلِكَ كُلُّهُ هُوَ الْمَحْقُ وَالنُّقْصَانُ وَالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ وَالذُّلُّ وَالْهَوَانُ : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } أَيْ يَزِيدُهَا فِي الدُّنْيَا بِسُؤَالِ الْمَلَكِ لَهُ أَنَّ اللَّه يُعْطِيهِ خَلَفًا كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : { إنَّهُ مَا مِنْ يَوْمٍ إلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ يُنَادِي : اللَّهُمَّ أَعْطِ

مُنْفِقًا خَلَفًا } وَبِأَنَّهُ يَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ جَاهُهُ وَذِكْرُهُ الْجَمِيلُ ، وَمَيْلُ الْقُلُوبُ إلَيْهِ ، وَالدُّعَاءُ الْخَالِصُ لَهُ مِنْ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ وَانْقِطَاعُ الْأَطْمَاعِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مَتَى اشْتَهَرَ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ الْفُقَرَاءِ أَوْ الضُّعَفَاءِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَحْتَرِزُ عَنْ أَذِيَّتِهِ وَالتَّعَرُّضِ لَهُ ، وَكُلُّ طَمَّاعٍ وَظَالِمٍ يَتَخَوَّفُ مِنْ التَّعَرُّضِ إلَيْهِ ، وَفِي الْآخِرَةِ بِتَرْبِيَتِهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ اللُّقْمَةُ كَالْجَبَلِ ، كَمَا صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَوَاخِرَ الزَّكَاةِ { وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ } كِلَاهُمَا صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ الْكُفْرِ وَالْإِثْمِ لِاسْتِمْرَارِ مُسْتَحِلِّ الرِّبَا وَآكِلِهِ عَلَيْهِمَا وَتَمَادِيهِ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ يَصِحُّ رُجُوعُهُمَا مَعًا لِلْمُسْتَحِلِّ وَلَا إشْكَالَ فِيهِ أَوْ الْأَوَّلُ لَهُ وَالثَّانِي لِغَيْرِهِ وَلَا إشْكَالَ أَيْضًا .
وَيَصِحُّ أَيْضًا رُجُوعُهُمَا مَعًا إلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِلِّ وَيَكُونُ عَلَى حَدِّ : { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ الْحَجَّ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ أَتَاهَا فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ } : أَيْ قَارَبَ الْكُفْرَ كَمَا مَرَّ فِي الْحَجِّ ، بِمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْخَبِيثَةَ إذَا دَاوَمَ عَلَيْهَا فَاعِلُهَا أَدَّتْ بِهِ إلَى الْكُفْرِ وَسُوءِ الْخَاتِمَةِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ، وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ عَظِيمٌ بَالِغٌ مِنْ الرِّبَا ، وَأَنَّهُ يُؤَدِّي بِمُتَعَاطِيهِ إلَى أَنْ يُوقِعَهُ فِي أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَفْظَعِهَا .
قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } إلَخْ أَرْدَفَهُ تَعَالَى بِمَا مَرَّ جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ شَفْعِ الرَّهْبَةِ بِالرَّغْبَةِ وَعَكْسِهِ تَذْكِيرًا بِالْعَوَاقِبِ وَتَمْيِيزًا لِمَقَامِ الْمُطِيعِ مِنْ الْعَاصِي ، وَمُبَالَغَةً فِي الثَّنَاءِ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الذَّمِّ لِهَذَا { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا } أَيْ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ ، وَبَيَّنَ تَعَالَى بِهَذَا مَعَ قَوْلِهِ : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أَنَّ نُزُولَ

تَحْرِيمِ الرِّبَا لَا يُحَرِّمُ مَا سَلَفَ أَخْذُهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، بِخِلَافِ مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُهُ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا رَأْسُ مَالِهِ فَقَطْ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كُلِّفَ بِهِ قَبْلَ أَخْذِهِ صَارَ أَخْذُهُ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ .
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَوْ بَعْضَهُمْ أَوْ بَعْضَ أَهْلِ الطَّائِفِ كَانُوا يُرَابُونَ ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا عِنْدَ فَتْحِهَا تَخَاصَمُوا فِي الرِّبَا الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ ، فَنَزَلَتْ آمِرَةً لَهُمْ بِأَخْذِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فَقَطْ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : { أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ ، ثُمَّ قَالَ : وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ } .
وقَوْله تَعَالَى : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا } أَيْ بِأَنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَنْ الرِّبَا { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ وَمَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا .
ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْحَرْبُ إمَّا فِي الدُّنْيَا ، إذْ يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا مِنْ شَخْصٍ تَعَاطِيَ الرِّبَا عَزَّرُوهُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ إلَى أَنْ يَتُوبَ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شَوْكَةٌ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ إلَّا بِنَصَبِ حَرْبٍ وَقِتَالٍ نَصَبُوا لَهُ الْحَرْبَ وَالْقِتَالَ ، كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَانِعِي الزَّكَاةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ ، فَيُحْتَمَلُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ وَيُحْتَمَلُ الْإِطْلَاقُ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي الْآيَةِ ، فَقِيلَ الْإِيذَانُ بِالْحَرْبِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُسْتَحِلِّ ، وَقِيلَ بَلْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ بِنَظْمِ الْآيَةِ إذْ قَوْلُهُ : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أَيْ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا } أَيْ فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِتَحْرِيمِهِ {

فَأْذَنُوا } إلَخْ ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يَخْتِمَ اللَّهُ لَهُ بِسُوءٍ ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ اعْتِيَادُ الرِّبَا وَالتَّوَرُّطُ فِيهِ عَلَامَةً عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ ، إذْ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَيْفَ يُخْتَمُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ بِخَيْرٍ ؟ وَهَلْ مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَهُ إلَّا كِنَايَةٌ عَنْ إبْعَادِهِ عَنْ مَوَاطِنِ رَحْمَتِهِ وَإِحْلَالِهِ فِي دَرَكَاتِ شَقَاوَتِهِ { وَإِنْ تُبْتُمْ } أَيْ عَنْ اسْتِحْلَالِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوْ عَنْ مُعَامَلَتِهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ } أَيْ الْغَرِيمَ بِأَخْذِ زِيَادَةٍ مِنْهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ { وَلَا تُظْلَمُونَ } أَيْ بِنَقْصِكُمْ عَنْ رُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ .
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْمُرَابُونَ بَلْ نَتُوبُ إلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَرَضُوا بِرَأْسِ الْمَالِ فَشَكَا الْمَدِينُونَ الْإِعْسَارَ فَأَبَوْا الصَّبْرَ عَلَيْهِمْ فَنَزَلَ : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } أَيْ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تُمْهِلُوهُ إلَى يَسَارِهِ ، وَكَذَا يَجِبُ إنْظَارُ الْمُعْسِرِ فِي كُلِّ دَيْنٍ أَخْذًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَأَخَذَ جَمْعٌ بِهِ ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْآيَاتِ .
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ الْآخِرَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا } إلَخْ ؛ فَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَثَلًا إلَى أَجَلٍ وَأَعْسَرَ الْمَدِينُ قَالَ لَهُ زِدْنِي فِي الْمَالِ حَتَّى أَزِيدَ فِي الْأَجَلِ فَرُبَّمَا جَعَلَهُ مِائَتَيْنِ ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ الثَّانِي فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَهَكَذَا إلَى آجَالَ كَثِيرَةٍ فَيَأْخُذُ فِي تِلْكَ الْمِائَةِ أَضْعَافًا ، فَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ } أَيْ بِتَرْكِ الرِّبَا { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أَيْ تَظْفَرُونَ بِبُغْيَتِكُمْ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ الرِّبَا لَا يَحْصُلُ

لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْفَلَاحِ ، وَسَبَبُهُ مَا مَرَّ فِي تِلْكَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ حَارَبَهُ هُوَ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ لَهُ فَلَاحٌ ؟ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا إيمَاءٌ إلَى سُوءِ خَاتِمَتِهِ وَدَوَامِ عُقُوبَتِهِ .
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى عَقِبَهَا : { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أَيْ هُيِّئَتْ لَهُمْ بِطَرِيقِ الذَّاتِ وَلِغَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِ ، أَوْ الْمُرَادُ أَنَّ أَكْثَرَ دَرَكَاتِهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فَلَا يُنَافِي أَنَّ بَعْضَ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَهَا ، فَفِيهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ بَقِيَ عَلَى الرِّبَا يَكُونُ مَعَ الْكُفَّارِ فِي تِلْكَ النَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ تِلْكَ الْمُحَارَبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ وَأَدَّتْ بِهِ إلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ .
{ فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وَتَأَمَّلْ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى تِلْكَ النَّارَ بِكَوْنِهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ، فَإِنَّ فِيهِ غَايَةَ الْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِاتِّقَاءِ الْمَعَاصِي إذَا عَلِمُوا بِأَنَّهُمْ مَتَى فَارَقُوا التَّقْوَى دَخَلُوا النَّارَ الْمُعَدَّةَ لِلْكَافِرِينَ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ عَظَمَةُ عُقُوبَةِ الْكَافِرِينَ انْزَجَرُوا عَنْ الْمَعَاصِي أَتَمَّ الِانْزِجَارِ .
فَتَأَمَّلْ عَفَا اللَّهُ عَنَّا وَعَنْك مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ وَعِيدِ آكِلِ الرِّبَا يَظْهَرُ لَك إنْ كَانَ لَك أَدْنَى بَصِيرَةٍ قُبْحُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ وَمَزِيدُ فُحْشِهَا ، وَعَظِيمُ مَا يَتَرَتَّبُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ عَلَيْهَا ، سِيَّمَا مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَتَرَتَّبَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي إلَّا مُعَادَاةَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُقَارِبَةِ لِفُحْشِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ وَقُبْحِهَا .
وَإِذَا ظَهَرَ لَك ذَلِكَ رَجَعْت وَتُبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْمُهْلِكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،

وَقَدْ شَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا طَوَى التَّصْرِيحُ بِهِ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ وَالْقَبَائِحِ الْحَاصِلَةِ لِأَهْلِ الرِّبَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ وَغَيْرِهَا أَحْبَبْت هُنَا ذِكْرَ كَثِيرٍ مِنْهَا لِيَتِمَّ لِمَنْ سَمِعَهَا مَعَ مَا مَرَّ الِانْزِجَارُ عَنْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَمِنْهَا : أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ : أَيْ الْمُهْلِكَاتِ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالُ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } .
وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا وَمَرَّ فِي بَابِ الصَّلَاةِ مُطَوَّلًا : { رَأَيْت اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخْرَجَانِي إلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَعَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهْرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلَ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ .
فَقُلْت مَا هَذَا الَّذِي رَأَيْته فِي النَّهْرِ ؟ قَالَ آكِلُ الرِّبَا } .
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ } .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ، وَزَادُوا فِيهِ : { وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ

هُمْ سَوَاءٌ } .
وَالْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْمُتَابَعَاتِ : { الْكَبَائِرُ سَبْعٌ أَوَّلُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَفِرَارٌ يَوْمِ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ وَالِانْتِقَالُ إلَى الْأَعْرَابِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ } .
وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ ، وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الْبَغِيِّ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ وَهُوَ الْأَعْوَرُ ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ كَمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ ، وَالْوَاشِمَةُ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ لِلْحُسْنِ ، وَلَاوِي الصَّدَقَةِ ، وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ فِيهِ وَاهِيًا : { أَرْبَعٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمْ الْجَنَّةَ وَلَا يُذِيقَهُمْ نَعِيمَهَا : مُدْمِنُ الْخَمْرِ وَآكِلُ الرِّبَا ، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ } .
وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَقَالَ هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَالْمَتْنُ بِهَذَا مُنْكَرُ الْإِسْنَادِ وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا وَهْمًا وَكَأَنَّهُ دَخَلَ لِبَعْضِ رُوَاتِهِ إسْنَادٌ إلَى إسْنَادٍ : { الرِّبَا ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ } .
وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ : { الرِّبَا بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا وَالشِّرْكُ مِثْلُ ذَلِكَ } .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ شَطْرَهُ الْأَوَّلَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : { الرِّبَا سَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا الَّذِي يَقَعُ عَلَى أُمِّهِ } ، رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ

ثُمَّ قَالَ غَرِيبٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عِكْرِمَةَ يَعْنِي ابْنَ عَمَّارٍ قَالَ : وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ هَذَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الدِّرْهَمُ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيهَا فِي الْإِسْلَامِ } ، وَفِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَهَذَا الْمَوْقُوفُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ، لِأَنَّ كَوْنَ الدِّرْهَمِ أَعْظَمَ وِزْرًا مِنْ هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ مِنْ الزِّنَا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِوَحْيٍ فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَفْظُ الْمَوْقُوفِ فِي أَحَدِ طُرُقِهِ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : { الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حُوبًا أَيْ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِهَا إثْمًا أَصْغَرُهَا حُوبًا كَمَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَدِرْهَمٌ مِنْ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً .
قَالَ : وَيَأْذَنُ اللَّهُ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ بِالْقِيَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا آكِلَ الرِّبَا فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ : " لَأَنْ أَزْنِيَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ آكُلَ دِرْهَمَ رِبًا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنِّي أَكَلْته حِينَ أَكَلْته رِبًا " .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ : { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَمْرَ الرِّبَا وَعِظَمِ شَأْنِهِ وَقَالَ : إنَّ الدِّرْهَمَ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ فِي

الْخَطِيئَةِ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيَهَا الرَّجُلُ وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ : { مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بِبَاطِلٍ لِيَدْحَضَ بِهِ حَقًّا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمَنْ أَكَلَ دِرْهَمًا مِنْ رِبًا فَهُوَ مِثْلُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً وَمَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ الرِّبَا نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَهْوَنُهُنَّ بَابًا مِثْلُ مَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَدِرْهَمٌ مِنْ رِبَا أَشَدُّ مِنْ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً } الْحَدِيثَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ رَاشِدٍ وَقَدْ وُثِّقَ : { الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا مِثْلُ إتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ وَقَدْ وُثِّقَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُشْتَرَى الثَّمَرَةُ حَتَّى تَعْظُمَ } .
وَقَالَ : { إذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ } .
وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ : { مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الزِّنَا وَالرِّبَا إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ : { مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ الرِّبَا إلَّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ ، وَمَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ الرُّشَا إلَّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ } وَالسَّنَةُ الْعَامُ الْمِقْحَطُ نَزَلَ فِيهِ غَيْثٌ

أَمْ لَا .
وَأَحْمَدُ فِي حَدِيثٍ ، طَوِيلٍ وَابْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَالْأَصْبَهَانِيّ : { رَأَيْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَمَّا انْتَهَيْنَا إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، فَنَظَرْت فَوْقِي فَإِذَا أَنَا بِرَعْدٍ وَبُرُوقٍ وَقَوَاصِفَ ، قَالَ : فَأَتَيْت عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ .
قُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَمَّا عُرِجَ بِي إلَى السَّمَاءِ نَظَرْت فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا رِجَالٌ بُطُونُهُمْ كَأَمْثَالِ الْبُيُوتِ الْعِظَامِ قَدْ مَالَتْ بُطُونُهُمْ وَهُمْ مُنَضَّدُونَ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ مَوْقُوفُونَ عَلَى النَّارِ كُلَّ غَدَاةٍ وَعَشِيٍّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَا تُقِمْ السَّاعَةَ أَبَدًا ، قُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ ، أَكَلَةُ الرِّبَا مِنْ أُمَّتِك لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } .
قَالَ الْأَصْبَهَانِيُّ : قَوْلُهُ مُنَضَّدُونَ : أَيْ مَطْرُوحُونَ : أَيْ طُرِحَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَالسَّابِلَةُ الْمَارَّةُ : أَيْ يَطَؤُهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ كُلَّ غَدَاةٍ وَعَشِيٍّ .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ يَظْهَرُ الزِّنَا وَالرِّبَا وَالْخَمْرُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَرَّاقِ قَالَ : { رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سُوقِ الصَّيَارِفَةِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الصَّيَارِفَةِ أَبْشِرُوا ، قَالُوا بَشَّرَك اللَّهُ بِالْجَنَّةِ ، بِمَ تُبَشِّرُنَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ؟ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّيَارِفَةِ أَبْشِرُوا بِالنَّارِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إيَّاكَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لَا تُغْفَرُ الْغُلُولُ فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يَتَخَبَّطُ ، ثُمَّ قَرَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { يَأْتِي آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخَبَّلًا : أَيْ مَجْنُونًا يَجُرُّ شِقَّيْهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : { لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { مَا أَحَدٌ أَكْثَرُ مِنْ الرِّبَا إلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إلَى قِلَّةٍ } ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا : { الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ إلَى قُلٍّ } .
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ كِلَاهُمَا عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَاخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِهِ : { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا أَكَلَ الرِّبَا فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ } .
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَبِيتَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أَشَرٍ وَبَطَرٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ فَيُصْبِحُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ بِاسْتِحْلَالِهِمْ الْمَحَارِمَ وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقَيْنَاتِ وَشُرْبِهِمْ الْخَمْرَ وَبِأَكْلِهِمْ الرِّبَا وَلُبْسِهِمْ الْحَرِيرَ } .
وَأَحْمَدُ مُخْتَصَرًا وَالْبَيْهَقِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ : { يَبِيتُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى طُعْمٍ وَشُرْبٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ فَيُصْبِحُونَ قَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ، وَلَيُصِيبَنَّهُمْ خَسْفٌ وَقَذْفٌ حَتَّى يُصْبِحَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ خُسِفَ اللَّيْلَةَ بِبَيْتِ فُلَانٍ وَخُسِفَ اللَّيْلَةَ بِدَارِ فُلَانٍ ، وَلَتُرْسَلَنَّ عَلَيْهِمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ كَمَا أُرْسِلَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ عَلَى قَبَائِلَ مِنْهَا وَعَلَى دُورٍ بِشُرْبِهِمْ الْخَمْرَ وَلُبْسِهِمْ الْحَرِيرَ وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقَيْنَاتِ وَأَكْلِهِمْ الرِّبَا وَقَطِيعَتِهِمْ الرَّحِمَ } وَخَصْلَةٌ نَسِيَهَا رَاوِيهِ .
الْقَيْنَاتُ جَمْعُ قَيْنَةٍ : وَهِيَ الْمُغَنِّيَةُ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ الرِّبَا كَبِيرَةً هُوَ

مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ كَبِيرَةً بَلْ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَعْظَمِهَا .
وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالرِّبَا ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ : { الْكَبَائِرُ تِسْعٌ أَعْظَمُهُنَّ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ نَفْسِ مُؤْمِنٍ وَأَكْلُ الرِّبَا } الْحَدِيثَ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَزَّارِ : وَفِي سَنَدِهَا مَنْ ضَعَّفَهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ : { الْكَبَائِرُ أَوَّلُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } الْحَدِيثَ .
وَفِي أُخْرَى لِلطَّبَرَانِيِّ فِي سَنَدِهَا ابْنُ لَهِيعَةَ : { اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ السَّبْعَ : الشِّرْكَ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلَ النَّفْسِ ، وَالْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ ، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَأَكْلَ الرِّبَا } الْحَدِيثَ .
وَفِي أُخْرَى لِابْنِ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سَنَدِهَا ضَعِيفٌ : { كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ ، وَبَعَثَ بِهِ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ فِي الْكِتَابِ : إنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } وَيُسْتَفَادُ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَيْضًا : أَنَّ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ وَالسَّاعِيَ فِيهِ وَالْمُعِينَ عَلَيْهِ كُلَّهُمْ

فَسَقَةٌ ، وَأَنَّ كُلَّ مَالِهِ دَخَلَ فِيهِ كَبِيرَةٌ .
وَقَدْ صَرَّحَ بِبَعْضِ ذَلِكَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ فَلِذَلِكَ عُدَّتْ تِلْكَ كُلُّهَا كَبَائِرَ .

( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْحِيَلُ فِي الرِّبَا وَغَيْرِهِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهَا ) قَالَ بَعْضُهُمْ : وَرَدَ أَنَّ أَكَلَةَ الرِّبَا يُحْشَرُونَ فِي صُورَةِ الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ مِنْ أَجْلِ حِيَلِهِمْ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا كَمَا مُسِخَ أَصْحَابُ السَّبْتِ حِينَ تَحَيَّلُوا عَلَى اصْطِيَادِ الْحِيتَانِ الَّتِي نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ اصْطِيَادِهَا يَوْمَ السَّبْتِ ، فَحَفَرُوا لَهَا حِيَاضًا تَقَعُ فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى يَأْخُذُوهَا يَوْمَ الْأَحَدِ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ مَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ، وَهَكَذَا الَّذِينَ يَتَحَيَّلُونَ عَلَى الرِّبَا بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حِيَلُ الْمُحْتَالِينَ .
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ : يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ آدَمِيًّا وَلَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ انْتَهَى .
تَنْبِيهٌ : الْحِيلَةُ فِي الرِّبَا وَغَيْرِهِ قَالَ بِتَحْرِيمِهَا الْإِمَامَانِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقِيَاسُ الِاسْتِدْلَالِ لَهَا بِمَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الرِّبَا بِالْحِيلَةِ كَبِيرَةً عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ الْحِيلَةِ وَإِنْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي حِلِّهِ حِينَئِذٍ ؛ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى جَوَازِ الْحِيلَةِ فِي الرِّبَا وَغَيْرِهِ ، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا لِحِلِّهَا بِمَا صَحَّ { أَنَّ عَامِلَ خَيْبَرَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ كَثِيرٍ جَيِّدٍ فَقَالَ لَهُ أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ قَالَ لَا وَإِنَّمَا نَرُدُّ الرَّدِيءَ وَنَأْخُذُ بِالصَّاعَيْنِ مِنْهُ صَاعًا جَيِّدًا فَنَهَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ رِبًا ثُمَّ عَلَّمَهُ الْحِيلَةَ فِيهِ وَهِيَ أَنَّهُ يَبِيعُ الرَّدِيءَ بِدَرَاهِمَ وَيَشْتَرِي بِهَا الْجَيِّدَ } .
وَهَذِهِ مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا فَإِنَّ مَنْ مَعَهُ صَاعَانِ رَدِيئَانِ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ فِي مُقَابِلَتِهِمَا صَاعًا جَيِّدًا لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ

تَوَسُّطِ عَقْدٍ آخَرَ لِأَنَّهُ رِبًا إجْمَاعًا ، فَإِذَا بَاعَهُ الرَّدِيئِينَ بِدِرْهَمٍ وَاشْتَرَى بِالدِّرْهَمِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ الْجَيِّدَ خَرَجَ عَنْ الرِّبَا .
إذْ لَمْ يَقَعْ الْعَقْدُ إلَّا عَلَى مَطْعُومٍ وَنَقْدٍ دُونَ مَطْعُومَيْنِ فَاضْمَحَلَّتْ صُورَةُ الرِّبَا ، فَأَيُّ وَجْهٍ لِلتَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ ؟ فَعُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ الَّتِي عَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَامِلِ خَيْبَرَ نَصٌّ فِي جَوَازِ مُطْلَقِ الْحِيلَةِ فِي الرِّبَا وَغَيْرِهِ إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ .
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أُولَئِكَ مِنْ قِصَّةِ الْيَهُودِ الْمَذْكُورَةِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا .
وَالْأَصَحُّ الْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ خِلَافُهُ وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَمَحَلُّهُ حَيْثُ لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ ، وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا تَقَرَّرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ ، وَذَيْلُ الِاسْتِدْلَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا طَوِيلٌ ، وَمَحَلُّ بَسْطِهِ كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ .

( الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : مَنْعُ الْفَحْلِ ) عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَمَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ ، وَمَنْعُ الْفَحْلِ } ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْجَلَالِ الْبُلْقِينِيِّ لَكِنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إسْنَادُ حَدِيثِهِ ضَعِيفٌ وَلَا يَبْلُغُ ضَرَرُهُ ضَرَرَ غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ انْتَهَى .
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مَنْعَ إعَارَةِ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ غَايَةُ أَمْرِهِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا لَوْ اُضْطُرَّ أَهْلُ نَاحِيَةٍ إلَى فَحْلٍ لِفَقْدِ غَيْرِهِ بِنَاحِيَتِهِمْ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْعُدُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ تَمْكِينِهِ مِنْ الضِّرَابِ لِأَنَّ فِي وِلَادَةِ الْإِنَاثِ حَيَاةً لِلْأَرْوَاحِ وَلَلْأَبَدَانِ بِالْأَلْبَانِ وَغَيْرِهَا لَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ مَجَّانًا .
فَإِنْ قُلْت : كَيْفَ تُتَصَوَّرُ الْإِجَارَةُ هُنَا ، وَقَدْ صَحَّ نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ وَهُوَ بَيْعُ ضِرَابِهِ أَوْ مَائِهِ أَوْ أُجْرَةُ ضِرَابِهِ ؟ قُلْت : يُمْكِنُ تَصْوِيرُهَا بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ صَاحِبُ الْأُنْثَى الْفَحْلَ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ زَمَنًا مُعَيَّنًا وَلَوْ سَاعَةً لَأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَا شَاءَ فَتَصِحَّ هَذِهِ الْإِجَارَةُ كَمَا هُوَ قِيَاسُ كَلَامِهِمْ فِي بَابِهَا ، وَيَسْتَوْفِيَ مَنَافِعَهُ وَلَوْ بِأَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى أُنْثَاهُ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لَهُ قَصْدًا يَجُوزُ لَهُ تَبَعًا .

الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : أَكْلُ الْمَالِ بِالْبُيُوعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْأَكْسَابِ الْمُحَرَّمَةِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهِ ، فَقِيلَ الرِّبَا وَالْقِمَارُ وَالْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ وَالْخِيَانَةُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَأَخْذُ الْمَالِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَعَلَيْهِ قِيلَ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ تَحَرَّجُوا مِنْ أَنْ يَأْكُلُوا عِنْدَ أَحَدٍ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ النُّورِ { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ } إلَى آخِرِهَا وَقِيلَ : هُوَ الْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ ، وَالْوَجْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّهَا مُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ا هـ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَكْلَ بِالْبَاطِلِ يَشْمَلُ كُلَّ مَأْخُوذٍ بِغَيْرِ حَقٍّ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى جِهَةِ الظُّلْمِ كَالْغَصْبِ وَالْخِيَانَةِ وَالسَّرِقَةِ ، أَوْ الْهُزْؤِ وَاللَّعِبِ كَالْمَأْخُوذَةِ بِالْقِمَارِ وَالْمَلَاهِي وَسَيَأْتِي ذَلِكَ كُلُّهُ ، أَوْ عَلَى جِهَةِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ كَالْمَأْخُوذَةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته قَوْلُ بَعْضِهِمْ : الْآيَةُ تَشْمَلُ أَكْلَ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ بِأَنْ يَتَفَقَّهَ فِي مُحَرَّمٍ وَمَالِ غَيْرِهِ بِهِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ .
وقَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً } اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْبَاطِلِ بِأَيِّ مَعْنًى أُرِيدَ بِهِ وَتَأْوِيلُهُ بِالسَّبَبِ لِيَكُونَ مُتَّصِلًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ وَالتِّجَارَةُ وَإِنْ اخْتَصَّتْ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ إلَّا أَنَّ نَحْوَ الْقَرْضِ وَالْهِبَةِ مُلْحَقٌ بِهَا بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى .
وقَوْله تَعَالَى : { عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أَيْ طِيبِ نَفْسٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ، وَتَخْصِيصُ الْأَكْلِ فِيهَا بِالذِّكْرِ لَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ بِهِ بَلْ لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ وُجُوهِ

الِانْتِفَاعَاتِ عَلَى حَدِّ { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } وَأَدِلَّةُ هَذَا الْمَبْحَثِ وَالتَّغْلِيظَاتُ الْوَارِدَةُ فِيهِ مِنْ السُّنَّةِ كَثِيرَةٌ فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى بَعْضِهَا .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ : يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمُشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامُ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { طَلَبُ الْحَلَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ : { طَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرَائِضِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ هَذَا فِي أُمَّتِك الْيَوْمَ كَثِيرٌ ، قَالَ وَسَيَكُونُ فِي قُرُونٍ بَعْدِي } .
وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { أَرْبَعٌ إذَا كُنَّ فِيك فَلَا عَلَيْك مَا فَاتَك مِنْ الدُّنْيَا : حِفْظُ أَمَانَةٍ ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ ، وَحُسْنُ خُلُقٍ ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { طُوبَى لِمَنْ طَابَ كَسْبُهُ وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ وَكَرُمَتْ عَلَانِيَتُهُ وَعَزَلَ عَنْ النَّاسِ شَرَّهُ .
طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَك تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ .
وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ

اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ } .
وَالْبَزَّارُ وَفِيهِ نَكَارَةٌ : { إنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا صَلَاةَ وَلَا زَكَاةَ ، إنَّهُ مَنْ أَصَابَ مَالًا مِنْ حَرَامٍ فَلَبِسَ جِلْبَابًا يَعْنِي قَمِيصًا لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ حَتَّى يُنَحِّيَ ذَلِكَ الْجِلْبَابَ عَنْهُ ؛ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَكْرَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ رَجُلٍ أَوْ صَلَاتَهُ وَعَلَيْهِ جِلْبَابٌ مِنْ حَرَامٍ } .
وَأَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَفِيهِ دِرْهَمٌ مِنْ حَرَامٍ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ صَلَاةً مَا دَامَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ثُمَّ قَالَ صَمْتًا إنْ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْته يَقُولُهُ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ اشْتَرَى سَرِقَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا سَرِقَةٌ فَقَدْ اشْتَرَكَ فِي عَارِهَا وَإِثْمِهَا } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : فِي إسْنَادِهِ احْتِمَالٌ لِلتَّحْسِينِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ بِهِ إلَى الْجَبَلِ فَيَحْتَطِبَ ثُمَّ يَأْتِيَ فَيَحْمِلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَأْكُلَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِي فِيهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } .
وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَالْحَاكِمُ : { مَنْ جَمَعَ مَالًا حَرَامًا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ وَكَانَ إصْرُهُ عَلَيْهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ كَسَبَ مَالًا حَرَامًا فَأَعْتَقَ مِنْهُ وَوَصَلَ مِنْهُ رَحِمَهُ كَانَ ذَلِكَ إصْرًا عَلَيْهِ } .
وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ حَسَّنَهُ بَعْضُهُمْ : { إنَّ اللَّهَ قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إلَّا لِمَنْ يُحِبُّ ، وَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ

الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَسْلَمَ أَوْ لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى سَلِمَ أَوْ يُسْلِمُ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ، قَالُوا وَمَا بَوَائِقُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ غِشُّهُ وَظُلْمُهُ ، وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ فَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ فَيُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يُنْفِقُ مِنْهُ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظُفْرِهِ إلَّا كَانَ زَادَهُ إلَى النَّارِ .
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ ، إنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ : { سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ؟ قَالَ الْفَمُ وَالْفَرْجُ ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ : { مَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، مَنْ اكْتَسَبَ فِيهَا مَالًا مِنْ حِلِّهِ وَأَنْفَقَهُ فِي حَقِّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَوْرَدَهُ جَنَّتَهُ ، وَمَنْ اكْتَسَبَ فِيهَا مَالًا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ أَوْرَدَهُ اللَّهُ دَارَ الْهَوَانِ ، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِي مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ وَدَمٌ نَبَتَا مِنْ سُحْتٍ وَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلَّا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ } ، وَالسُّحْتُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَوْ ضَمٍّ : الْحَرَامُ ، وَقِيلَ الْخَبِيثُ مِنْ الْمَكَاسِبِ .
وَفِي رِوَايَةٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَسَدٌ

غُذِّيَ بِحَرَامٍ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ صَرِيحُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَكَّاسُ وَالْخَائِنُ وَالسَّارِقُ وَالْبَطَّاطُ وَآكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَشَاهِدُ الزُّورِ ، وَمَنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا فَجَحَدَهُ ، وَآكِلُ الرِّشْوَةِ ، وَمُنْتَقِصُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ، وَمَنْ بَاعَ شَيْئًا فِيهِ عَيْبٌ فَغَطَّاهُ ، وَالْمُقَامِرُ وَالسَّاحِرُ وَالْمُنَجِّمُ وَالْمُصَوِّرُ وَالزَّانِيَةُ وَالنَّائِحَةُ وَالدَّلَّالُ إذَا أَخَذَ أُجْرَتَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ ، وَمُخَبِّرُ الْمُشْتَرِي بِالزَّائِدِ ، وَمَنْ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ انْتَهَى .
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْته فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ الْبَاطِلَ فِيهَا يَعُمُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أُخِذَ بِغَيْرِ وَجْهِهِ الشَّرْعِيِّ .
وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأُنَاسٍ مَعَهُمْ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ حَتَّى إذَا جِيءَ بِهِمْ جَعَلَهَا اللَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ثُمَّ يَقْذِفُ بِهِمْ فِي النَّارِ .
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيُزَكُّونَ وَيَحُجُّونَ غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْحَرَامِ أَخَذُوهُ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } .
وَرُئِيَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك ؟ قَالَ خَيْرًا غَيْرَ أَنِّي مَحْبُوسٌ عَنْ الْجَنَّةِ بِإِبْرَةٍ اسْتَعَرْتهَا وَلَمْ أَرُدَّهَا .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : مَنْ أَنْفَقَ الْحَرَامَ فِي الطَّاعَةِ فَهُوَ كَمَنْ طَهَّرَ الثَّوْبَ بِالْبَوْلِ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةً مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ .
وَقَالَ بَلْتَعَةَ بْنُ الْوَرْدِ : لَوْ قُمْت قِيَامَ السَّارِيَةِ مَا نَفَعَك حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَدْخُلُ فِي بَطْنِك .

وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ : { إنَّ مَلَكًا عَلَى بَيْتِ الْمُعَذَّبِينَ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ أَوْ كُلَّ لَيْلَةٍ : مَنْ أَكَلَ حَرَامًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ } .
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : لَأَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَمِائَةِ أَلْفِ وَمِائَةِ أَلْفٍ .
وَفِي حَدِيثٍ : { مَنْ حَجّ بِمَالٍ حَرَامٍ فَقَالَ لَبَّيْكَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ وَحَجُّك مَرْدُودٌ عَلَيْك } .
وَقَالَ ابْنُ أَسْبَاطٍ : إذَا تَعَبَّدَ الشَّابُّ قَالَ الشَّيْطَانُ لِأَعْوَانِهِ : اُنْظُرُوا مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ ، فَإِنْ كَانَ مَطْعَمُهُ مَطْعَمَ سُوءٍ يَقُولُ دَعُوهُ يَتْعَبُ وَيَجْتَهِدُ فَقَدْ كَفَاكُمْ نَفْسَهُ أَيْ لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ مَعَ أَكْلِهِ الْحَرَامَ لَا يَنْفَعُهُ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ : أَطِبْ مَطْعَمَك وَمَا عَلَيْك أَنْ لَا تَقُومَ اللَّيْلَ وَلَا تَصُومَ النَّهَارَ .
وَصَحَّ : { لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ } .
وَصَحَّ : { فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ ، وَخَيْرُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ } .
وَصَحَّ أَيْضًا : { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ الصَّدْرُ وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْك } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ : { إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، وَسَأَضْرِبُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلًا : إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَا حَرَّمَ وَإِنَّ مَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَهُ فَإِنَّهُ مَنْ يُخَالِطُ الرِّيبَةَ يُوشِكُ أَنَّهُ يَجْسُرُ } .
وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ ، فَمَنْ تَرَكَ مَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ ، وَمَنْ اجْتَرَأَ أَيْ بِالْهَمْزِ أَقْدَمَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ

أَوْشَكَ أَيْ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ كَادَ وَأَسْرَعَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ وَمَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ } .
الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ الِاحْتِكَارُ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا فَهُوَ خَاطِئٌ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ : { لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ } .
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : الْخَاطِئُ بِالْهَمْزَةِ الْعَاصِي الْآثِمُ .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ ، وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَفِي هَذَا الْمَتْنِ غَرَابَةٌ وَبَعْضُ أَسَانِيدِهِ جَيِّدَةٌ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ كِلَاهُمَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ ، عَنْ ثَوْبَانَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَالْأَزْدِيُّ لَا يُتَابَعُ عَلِيَّ بْنَ سَالِمٍ عَلَى حَدِيثِهِ ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : لَا أَعْلَمُ لِعَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي عِدَادِ الْمَجْهُولِينَ انْتَهَى ، لَكِنْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مُتَّصِلٍ : { مَنْ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ } وَالْأَصْبَهَانِيّ { : إنَّ طَعَامًا أُلْقِيَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ : مَا هَذَا الطَّعَامُ ؟ فَقَالُوا طَعَامٌ جُلِبَ إلَيْنَا أَوْ عَلَيْنَا فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الَّذِينَ مَعَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ اُحْتُكِرَ .
قَالَ وَمَنْ احْتَكَرَهُ ؟ قَالُوا احْتَكَرَهُ فَرُّوخُ وَفُلَانٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِمَا فَأَتَيَاهُ فَقَالَ مَا حَمَلَكُمَا عَلَى احْتِكَارِ طَعَامِ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ ، فَقَالَ عُمَرُ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ فَرُّوخُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنِّي أُعَاهِدُ اللَّهَ وَأُعَاهِدُكَ عَلَى أَنْ لَا أَعُودَ إلَى احْتِكَارِ طَعَامٍ أَبَدًا فَتَحَوَّلَ إلَى بَرِّ مِصْرَ ، وَأَمَّا مَوْلَى عُمَرَ فَقَالَ نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ فَزَعَمَ أَبُو يَحْيَى أَحَدُ رُوَاتِهِ أَنَّهُ رَأَى مَوْلَى عُمَرَ مَجْذُومًا مَشْدُوخًا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ وَاهٍ : { بِئْسَ الْعَبْدُ الْمُحْتَكِرُ إنْ أَرْخَصَ اللَّهُ الْأَسْعَارَ حَزِنَ وَإِنْ أَغْلَاهَا فَرِحَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنْ سَمِعَ بِرُخْصٍ سَاءَهُ وَإِنْ سَمِعَ بِغَلَاءٍ فَرِحَ } ، وَذِكْرُ رَزِينٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ اُعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُصُولِهِ .
وَأَخْرَجَ رَزِينٌ أَيْضًا وَفِيهِ الِاعْتِرَاضُ الْمَذْكُورُ : { أَهْلُ الْمَدَائِنِ هُمْ الْحُبَسَاءُ فِي اللَّهِ فَلَا تَحْتَكِرُوا عَلَيْهِمْ الْأَقْوَاتَ وَلَا تُغْلُوا عَلَيْهِمْ الْأَسْعَارَ فَإِنَّ مَنْ احْتَكَرَ عَلَيْهِمْ طَعَامًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَفَّارَةٌ } .
وَأَخْرَجَ رَزِينٌ أَيْضًا : { يُحْشَرُ الْحَاكِرُونَ وَقَتَلَةُ الْأَنْفُسِ فِي دَرَجَةٍ ، وَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ سِعْرِ الْمُسْلِمِينَ يُغْلِيهِ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعَذِّبَهُ فِي مُعْظَمِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثَيْنِ قَبْلَهُ نَكَارَةٌ ظَاهِرَةٌ .
وَأَحْمَدُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : " ثَقُلَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ فَأَتَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ يَعُودُهُ ، فَقَالَ هَلْ تَعْلَمُ يَا مَعْقِلُ أَنِّي سَفَكْتُ دَمًا حَرَامًا ؟ قَالَ : لَا أَعْلَمُ .
قَالَ : هَلْ تَعْلَمُ أَنِّي دَخَلْت فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ : مَا عَلِمْتُ .
قَالَ أَجْلِسُونِي ، ثُمَّ قَالَ اسْمَعْ يَا عُبَيْدَ اللَّهِ حَتَّى أُحَدِّثَك شَيْئًا مَا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً

وَلَا مَرَّتَيْنِ ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُقْعِدَهُ بِعَظِيمٍ مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
قَالَ : أَنْتَ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَقْذِفَهُ فِي مُعْظَمٍ مِنْ النَّارِ } .
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ قَالَ : { مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ يُغْلِيهِ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَقْذِفَهُ فِي جَهَنَّمَ رَأْسُهُ إلَى أَسْفَلِهِ } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : رُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ لَا أَعْرِفُهُ ، وَمَرَّ خَبَرُ : { احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إلْحَادٌ } .
وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ فِيهِ مَقَالٌ : { مَنْ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ ، وَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحِ بَعْضُهَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ كَاللَّعْنَةِ وَبَرَاءَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ وَالضَّرْبِ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ وَغَيْرِهَا ، وَبَعْضُ هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى الْكَبِيرَةِ ، فَاتَّجَهَ عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً لَكِنْ سَيَأْتِي قَرِيبًا عَنْ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ صَغِيرَةٌ بِمَا فِيهِ .
ثُمَّ الِاحْتِكَارُ الْمُحَرَّمُ عِنْدَنَا هُوَ أَنْ يَمْسِكَ مَا اشْتَرَاهُ فِي الْغَلَاءِ لَا الرُّخْصِ مِنْ الْقُوتِ حَتَّى نَحْوِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ بِقَصْدِ أَنْ يَبِيعَهُ بِأَغْلَى مِمَّا اشْتَرَاهُ بِهِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَأَلْحَقَ الْغَزَالِيُّ بِالْقُوتِ كُلَّ مَا يُعِينُ عَلَيْهِ كَاللَّحْمِ وَالْفَوَاكِهِ ، وَمَتَى اخْتَلَّ شَرْطٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلَا حُرْمَةَ كَأَنْ اشْتَرَاهُ وَلَوْ زَمَنَ

الْغَلَاءِ لَا لِيَبِيعَهُ بَلْ لَيَمْسِكَهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ أَوْ لِيَبِيعَهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ لَمْ يَشْتَرِهِ ، كَأَنْ أَمْسَكَ غَلَّةَ ضَيْعَتِهِ وَلَوْ لِيَبِيعَهَا بِأَغْلَى الْأَثْمَانِ نَعَمْ إذَا اشْتَدَّتْ ضَرُورَةُ النَّاسِ لَزِمَهُ الْبَيْعُ فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ وَعِنْدَ عَدَمِ الِاشْتِدَادِ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا فَوْقَ كِفَايَةِ سَنَةٍ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مَا لَمْ يَخَفْ جَائِحَةً فِي زَرْعِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَإِلَّا فَلَهُ إمْسَاكُ كِفَايَتِهَا فَلَا كَرَاهَةَ وَلَا احْتِكَارَ فِي غَيْرِ الْقُوتِ وَنَحْوِهِ مِمَّا مَرَّ ، نَعَمْ صَرَّحَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ يُكْرَهُ إمْسَاكُ الثِّيَابِ أَيْ احْتِكَارًا .
فَإِنْ قُلْت : يُنَافِي مَا قَرَّرْته أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رَاوِي حَدِيثِ { لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ } قِيلَ لَهُ فَإِنَّك تَحْتَكِرُ قَالَ إنَّ مَعْمَرًا الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ كَانَ يَحْتَكِرُ .
قُلْت : قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا لَا يَحْرُمُ احْتِكَارُهُ كَالثِّيَابِ فَيُحْمَلُ ذَلِكَ مِنْ سَعِيدٍ عَلَيْهَا أَوْ نَحْوِهَا ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَشَرْطُ تَحْرِيمِ احْتِكَارِ الْقُوتِ مَا مَرَّ ، فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّهُمَا كَانَا يَحْتَكِرَانِ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الشُّرُوطِ ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَسَعِيدٌ وَمَعْمَرٌ مُجْتَهِدَانِ فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا وَلَا عَلَى غَيْرِهِمَا بِهِمَا ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ وَجَمَاعَةً آخَرِينَ غَيْرَهُ قَالُوا مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ عَنْ سَعِيدٍ وَمَعْمَرٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَحْتَكِرَانِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا كَانَا يَحْتَكِرَانِ الزَّيْتَ وَالزَّيْتُ لَيْسَ بِقُوتٍ .
قَالُوا وَكَذَا حَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : إنَّهُ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَجَوَابُ سَعِيدٍ أَنَّ مَعْمَرًا كَانَ يَحْتَكِرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَحْتَكِرُ مَا لَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ كَالزَّيْتِ وَالْأُدُمِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ

الِاحْتِكَارِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ كَمَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ إنْسَانٍ طَعَامٌ وَاضْطُرَّ إلَيْهِ النَّاسُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ .
التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا الْغَيْرِ الْمُمَيِّزِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لَا بِنَحْوِ الْعِتْقِ وَالْوَقْفِ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ : { لَعَنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا وَبَيْنَ الْأَخِ وَأَخِيهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ : { مَلْعُونٌ مَنْ فَرَّقَ } وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ : هَذَا مُبْهَمٌ هُوَ عِنْدَنَا فِي السَّبْيِ وَالْوَالِدِ وَفِيهِ - كَاَلَّذِي قَبْلَهُ - انْقِطَاعٌ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَبِفَرْضِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ إلَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ أَيْضًا ، لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَحِبَّتِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَمْرٌ مُشِقٌّ عَلَى النَّفْسِ جِدًّا .
قُلْت : وَكَمَا أَخَذُوا مِنْ هَذَا حُرْمَةَ التَّفْرِيقِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ الْوَعِيدَ ، كَذَلِكَ نَأْخُذُ مِنْهُ كَوْنَهُ كَبِيرَةً لِأَنَّهُ حَيْثُ سُلِّمَ أَنَّهُ يُفْهَمُ الْوَعِيدُ فَذَلِكَ الْوَعِيدُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهَا ظَاهِرُهُ وَعِيدٌ شَدِيدٌ .
فَإِنْ قُلْت : مَا وَجْهُ الْوَعِيدِ فِيهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ } الْآيَاتِ ، فَظَاهِرُهَا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاقِعٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَكَيْفَ يُفْهَمُ مِنْهُ الْوَعِيدُ ؟ قُلْت : سِيَاقُ الْحَدِيثِ نَصٌّ فِي أَنَّهُ وَعِيدٌ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ

يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً وِفَاقًا } .
وَالْمُرَادُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا يَشْمَلُ الْجَنَّةَ ، فَمَا فِي الْآيَةِ يَكُونُ فِي الْمَوْقِفِ وَمَا فِي الْحَدِيثِ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ ، وَكَمَا أَخَذُوا مِنْ حَدِيثِ الْحَرِيرِ أَنَّ لُبْسَهُ كَبِيرَةٌ كَمَا مَرَّ ، كَذَلِكَ أَخَذْنَا مِنْ خَبَرِ التَّفْرِيقِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ بِجَامِعِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ بِنَظِيرِهِ ، وَكَمَا أَنَّ خَبَرَ الْحَرِيرِ مُخَصِّصٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } كَذَلِكَ خَبَرُ التَّفْرِيقِ مُخَصِّصٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } وَشَرْطُ حُرْمَةِ التَّفْرِيقِ أَنْ يَكُونَ بَيْنِ أَمَةٍ وَوَلَدِهَا الْغَيْرِ الْمُمَيِّزِ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ بِنَحْوِ بَيْعٍ لِغَيْرِ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ أَوْ قِسْمَةٍ أَوْ فَسْخٍ وَإِنْ رَضِيَتْ الْأُمُّ ، لِأَنَّ لِلْوَلَدِ حَقًّا أَيْضًا وَيَبْطُلُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ ، وَالْأَبُ وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ لِلْأَبِ أَوْ الْأُمِّ وَإِنْ بَعُدَا كَالْأُمِّ عِنْدَ فَقْدِهَا .
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْوَلَدِ مَعَ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ وَكَذَا إنْ مَيَّزَ بِأَنْ صَارَ يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَشْرَبُ وَحْدَهُ وَيَسْتَنْجِي وَحْدَهُ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِسِنٍّ ، فَقَدْ يَحْصُلُ فِي نَحْوِ الْخَمْسِ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْ السَّبْعِ وَيُكْرَهُ التَّفْرِيقُ وَلَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَكَذَا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا .
وَيُحَرَّمُ التَّفْرِيقُ بِالسَّفَرِ أَيْضًا بَيْنَ الْأَمَةِ وَوَلَدِهَا الْغَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَبَيْنَ الزَّوْجَةِ وَوَلَدِهَا بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ نَحْوَ بَيْعِ وَلَدِ الْبَهِيمَةِ إنْ اسْتَغْنَى عَنْ اللَّبَنِ أَوْ لَمْ يَسْتَغْنِ لَكِنْ اشْتَرَاهُ لِلذَّبْحِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ وَلَا قَصَدَ الذَّبْحَ حُرِّمَ وَبَطَلَ نَحْوُ الْبَيْعِ .

الْكَبِيرَةُ التِّسْعُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالتِّسْعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ ) : نَحْوُ بَيْعِ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ عُلِمَ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا ، وَالْأَمْرَدِ مِمَّنْ عُلِمَ أَنَّهُ يَفْجُرُ بِهِ ، وَالْأَمَةِ مِمَّنْ يَحْمِلُهَا عَلَى الْبِغَاءِ ، وَالْخَشَبِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ آلَةَ لَهْوٍ ، وَالسِّلَاحِ لِلْحَرْبِيِّينَ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى قِتَالِنَا ، وَالْخَمْرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُهَا ، وَنَحْوُ الْحَشِيشَةِ مِمَّا مَرَّ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهَا وَعَدُّ هَذِهِ السَّبْعِ مِنْ الْكَبَائِرِ لَمْ أَرَهُ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ بَعِيدٍ لِعِظَمِ ضَرَرِهَا مَعَ قَاعِدَةِ أَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ ، وَالْمَقَاصِدُ فِي هَذِهِ كُلِّهَا كَبَائِرُ فَلْتَكُنْ وَسَائِلُهَا كَذَلِكَ ، وَالْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ قُبَيْلَ كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِيمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ شَاهِدَةٌ لِذَلِكَ ، وَالظَّنُّ فِي ذَلِكَ كَالْعِلْمِ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّحْرِيمِ .
وَأَمَّا لِلْكَبِيرَةِ فَيَتَرَدَّدُ النَّظَرُ فِيهِ وَكَذَلِكَ يَتَرَدَّدُ النَّظَرُ فِيمَا لَوْ بَاعَ أَمَتَهُ مِمَّنْ يَحْمِلُهَا عَلَى الْبِغَاءِ ، وَفِيمَا لَوْ بَاعَ السِّلَاحَ لِبُغَاةٍ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى قِتَالِنَا ، وَفِي بَيْعِ الدِّيكِ لِمَنْ يُهَارِشُ بِهِ وَالثَّوْرِ لِمَنْ يُنَاطِحُ بِهِ ، فَهَذِهِ كُلُّهَا يَتَرَدَّدُ النَّظَرُ فِي كَوْنِهَا كَبَائِرَ وَبَعْضُهَا أَقْرَبُ إلَى الْكَبِيرَةِ مِنْ بَعْضٍ ، ثُمَّ رَأَيْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ الْعَلَائِيَّ قَالَ : نَصَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْخَمْرِ كَبِيرَةٌ يَفْسُقُ مُتَعَاطِيهِ وَكَذَا يَكُونُ حُكْمُ الشِّرَاءِ وَأَكْلِ الثَّمَنِ وَالْحَمْلِ وَالسَّعْيِ انْتَهَى ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ فِي مَبْحَثِ الْخَمْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالتِّسْعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ ) : النَّجْشُ وَالْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ الْغَيْرِ وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَائِهِ وَعَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَبَائِرَ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّ فِيهَا إضْرَارًا عَظِيمًا بِالْغَيْرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ إضْرَارَ الْغَيْرِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ عَادَةً يَكُونُ كَبِيرَةً كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ مِنْ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ كَبِيرَةٌ لَكِنَّ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ مِنْ الصَّغَائِرِ الِاحْتِكَارَ وَالْبَيْعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ، وَكَذَا السَّوْمُ وَالْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَتِهِ وَبَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَالتَّصْرِيَةُ وَبَيْعُ الْمَعِيبِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِهِ وَاِتِّخَاذُ الْكَلْبِ الَّذِي لَا يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ وَإِمْسَاكُ الْخَمْرِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمَةِ وَبَيْعُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ ، وَكَذَا الْمُصْحَفُ وَسَائِرُ كُتُبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ انْتَهَى وَفِي أَكْثَرِهِ نَظَرٌ ، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عَلَى تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ بِأَنَّهَا الَّذِي فِيهِ الْحَدُّ .
أَمَّا عَلَى تَعْرِيفِهَا بِأَنَّهَا مَا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ فَلَا ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي الْغِشِّ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ وَكَذَا فِي إيذَاءِ الْمُسْلِمِ الشَّدِيدِ وَمَرَّ فِي الِاحْتِكَارِ ذَلِكَ أَيْضًا ، فَالْأَوْفَقُ لِلتَّعْرِيفِ بِأَنَّهَا مَا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ مَا ذَكَرْته .
ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ أَشَارَ إلَى مَا صَرَّحْت بِهِ فَقَالَ : وَفِي بَعْضِ مَا أَطْلَقَهُ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ صَغِيرَةٌ نَظَرٌ وَكَأَنَّ مَا ذَكَرْته وَأَشَارَ إلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ هُوَ سَبَبُ حَذْفِ بَعْضِ مُخْتَصَرِي الرَّوْضَةِ لِتِلْكَ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْهَا .
وَالنَّجْشُ هُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ لَا لِرَغْبَةٍ بَلْ لِيَخْدَعَ غَيْرَهُ .
وَالْبَيْعُ عَلَى الْبَيْعِ هُوَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْتَرِي زَمَنَ الْخِيَارِ رُدَّ هَذَا وَأَنَا أَبِيعُك أَحْسَنَ مِنْهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ أَوْ مِثْلَهُ بِأَنْقَصَ .
وَالشِّرَاءُ عَلَى الشِّرَاءِ أَنْ يَقُولَ لِلْبَائِعِ زَمَنَ

الْخِيَارِ افْسَخْ لِأَشْتَرِيَ مِنْك هَذَا الْمَبِيعَ بِأَزْيَدَ .
قَالَ أَئِمَّتُنَا : وَيَحْرُمُ السَّوْمُ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِأَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ أَنْ يُصَرِّحَا بِاسْتِقْرَارِهِ أَوْ يَعْرِضَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَرْخَصَ مِنْهُ ، وَتَحْرِيمُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ لُزُومِهِ أَشَدُّ وَهُوَ الْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ غَيْرِهِ .
نَعَمْ إنْ رَآهُ مَغْبُونًا جَازَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ كَجٍّ .
وَالْأَوْجَهُ الْمُوَافِقُ لِإِطْلَاقِهِمْ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ ، وَبَيْعُ رَجُلٍ قَبْلَ اللُّزُومِ مِنْ الْمُشْتَرِي عَيْنًا كَاَلَّتِي اشْتَرَاهَا بِأَقَلَّ كَالْبَيْعِ عَلَى الْبَيْعِ وَطَلَبُهَا قَبْلَ اللُّزُومِ أَيْضًا مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَكْثَرَ كَالشِّرَاءِ عَلَى الشِّرَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا يُؤَدِّي إلَى الْفَسْخِ مِنْ الصُّورَتَيْنِ فَيَحْصُلُ الضَّرَرُ .

( الْكَبِيرَةُ الْمُوَفِّيَةُ الْمِائَتَيْنِ : الْغِشُّ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالتَّصْرِيَةِ وَهِيَ مَنْعُ حَلْبِ ذَاتِ اللَّبَنِ إيهَامًا لِكَثْرَتِهِ ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا ، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ : أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أُصْبُعُهُ بَلَلًا فَقَالَ مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ - أَيْ الْمَطَرُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ أَفَلَا جَعَلْته فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ ؟ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَأَبُو دَاوُد : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَسَأَلَهُ كَيْفَ تَبِيعُ ؟ فَأَخْبَرَهُ فَأَوْحَى إلَيْهِ أَنْ أَدْخِلْ يَدَك فِيهِ فَإِذَا هُوَ مَبْلُولٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ وَقَدْ حَسَّنَهُ صَاحِبُهُ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَإِذَا الطَّعَامُ رَدِيءٌ ، فَقَالَ بِعْ هَذَا عَلَى حِدَةٍ وَهَذَا عَلَى حِدَةٍ فَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى السُّوقِ فَرَأَى طَعَامًا مُصَبَّرًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَأَخْرَجَ طَعَامًا رَطْبًا قَدْ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ .
فَقَالَ لِصَاحِبِهِ مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا ؟ قَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّهُ لَطَعَامٌ وَاحِدٌ ، قَالَ أَفَلَا عَزَلْت الرَّطْبَ عَلَى حِدَتِهِ وَالْيَابِسَ عَلَى حِدَتِهِ فَتَتَبَايَعُونَ مَا تَعْرِفُونَ ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ : { مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَقَالَ : يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ أَسْفَلُ هَذَا مِثْلُ أَعْلَاهُ ؟ قَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْأَصْبَهَانِيّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَنَّهُ مَرَّ بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ فَإِذَا إنْسَانٌ يَحْمِلُ لَبَنًا يَبِيعُهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ فَإِذَا هُوَ قَدْ خَلَطَهُ بِالْمَاءِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ : " كَيْفَ بِك إذَا قِيلَ لَك يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلِّصْ الْمَاءَ مِنْ اللَّبَنِ " .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْبَيْهَقِيُّ : قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَلَا أَعْلَمُ فِي رِوَايَتِهِ مَجْرُوحًا { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ فِي سَفِينَةٍ لَهُ وَمَعَهُ قِرْدٌ فِي السَّفِينَةِ وَكَانَ يَشُوبُ : أَيْ يَخْلِطُ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ فَأَخَذَ الْقِرْدُ الْكِيسَ فَصَعِدَ الذُّرْوَةَ وَفَتَحَ الْكِيسَ فَجَعَلَ يَأْخُذُ دِينَارًا فَيُلْقِيهِ فِي السَّفِينَةِ وَدِينَارًا فِي الْبَحْرِ حَتَّى جَعَلَهُ نِصْفَيْنِ : أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ عِقَابًا لِصَاحِبِهِ لَمَّا خَلَطَ وَغَشَّ } .
وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَشُوبُوا اللَّبَنَ لِلْبَيْعِ } ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الْمُحَلَّفَةِ ثُمَّ قَالَ مَوْصُولًا بِالْحَدِيثِ : { أَلَا وَإِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ جَلَبَ خَمْرًا إلَى قَرْيَةٍ فَشَابَهَا بِالْمَاءِ فَأَضْعَفَهُ أَضْعَافًا فَاشْتَرَى قِرْدًا فَرَكِبَ الْبَحْرَ حَتَّى إذَا لَجَّ فِيهِ أَلْهَمَ اللَّهُ الْقِرْدَ صُرَّةَ الدَّنَانِيرِ فَأَخَذَهَا وَصَعِدَ الدَّقَلَ فَفَتَحَ الصُّرَّةَ وَصَاحِبُهَا يَنْظُرُ إلَيْهِ فَأَخَذَ دِينَارًا فَرَمَى بِهِ فِي الْبَحْرِ وَدِينَارًا فِي السَّفِينَةِ حَتَّى قَسَمَهَا نِصْفَيْنِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ حَمَلَ خَمْرًا ثُمَّ جَعَلَ فِي كُلِّ رِزْقٍ نِصْفَهُ مَاءً ثُمَّ بَاعَهُ فَلَمَّا جَمَعَ الثَّمَنَ جَاءَ ثَعْلَبٌ

فَأَخَذَ الْكِيسَ وَصَعِدَ الدَّقَلَ فَجَعَلَ يَأْخُذُ دِينَارًا وَيَرْمِي بِهِ فِي السَّفِينَةِ وَيَأْخُذُ دِينَارًا فَيَرْمِي بِهِ فِي الْمَاءِ حَتَّى فَرَغَ مَا فِي الْكِيسِ } وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا لِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ .
وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } ، وَجَاءَ هَذَا الْمَتْنُ مِنْ رِوَايَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا .
وَعَنْ { أَبِي سِبَاعٍ قَالَ : اشْتَرَيْت نَاقَةً مِنْ دَارِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا خَرَجْت بِهَا أَدْرَكَنِي يَجُرُّ إزَارَهُ فَقَالَ اشْتَرَيْت ؟ قُلْت نَعَمْ .
قَالَ : أُبَيِّنُ لَك مَا فِيهَا ؟ قُلْت وَمَا فِيهَا إنَّهَا لَسَمِينَةٌ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ ، قَالَ أَرَدْت بِهَا سَفَرًا أَوْ أَرَدْت لَحْمًا ؟ قُلْت أَرَدْت بِهَا الْحَجَّ ، قَالَ ارْتَجِعْهَا ، فَقَالَ صَاحِبُهَا مَا أَرَدْت إلَى هَذَا أَصْلَحَك اللَّهُ ؟ تُفْسِدُ عَلَيَّ ، قَالَ : إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا إلَّا بَيَّنَ مَا فِيهِ ، وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إلَّا بَيَّنَهُ } .
رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ بِاخْتِصَارِ الْقِصَّةِ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ عَنْ وَاثِلَةَ { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ بَاعَ عَيْبًا لَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللَّهِ ، أَوْ لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْحَاكِمِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا : { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ إذَا بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ أَنْ لَا يُبَيِّنَهُ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ ابْنِ حِبَّانَ : { الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ نَصَحَةٌ وَادُّونَ وَإِنْ بَعُدَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ ، وَالْفَجَرَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ غَشَشَةٌ مُتَخَاوِنُونَ وَإِنْ اقْتَرَبَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ } .
وَمُسْلِمٌ : { إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ

وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } .
وَالنَّسَائِيُّ بِلَفْظِ : { إنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ } الْحَدِيثَ .
وَأَبُو دَاوُد بِلَفْظِ : { إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ } الْحَدِيثَ .
وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ : { رَأْسُ الدِّينِ النَّصِيحَةُ ، قَالُوا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِدِينِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } .
وَالشَّيْخَانِ { عَنْ جَرِيرٍ : أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت أُبَايِعُك عَلَى الْإِسْلَامِ فَشَرَطَ عَلَيَّ النُّصْحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ، فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا ، وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إنِّي لَكُمْ لَنَاصِحٌ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ : { بَايَعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَأَنْ أَنْصَحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَكَانَ إذَا بَاعَ الشَّيْءَ أَوْ اشْتَرَاهُ قَالَ : مَا الَّذِي أَخَذْنَا مِنْك أَحَبُّ إلَيْنَا مِمَّا أَعْطَيْنَاك فَاخْتَرْ } .
وَأَحْمَدُ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَحَبُّ مَا تَعَبَّدَ لِي بِهِ عَبْدِي النُّصْحُ لِي } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ لَا يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ ، وَمَنْ لَمْ يُصْبِحْ وَيُمْسِي نَاصِحًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِإِمَامِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : { لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ بَعْضِ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ نَفْيِ الْإِسْلَامِ عَنْهُ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللَّهِ أَوْ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ تَلْعَنُهُ ، ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ لَكِنَّ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ كَمَا مَرَّ أَنَّهُ صَغِيرَةٌ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذُكِرَ

مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِيهِ .
وَضَابِطُ الْغِشِّ الْمُحَرَّمِ أَنْ يَعْلَمَ ذُو السِّلْعَةِ مِنْ نَحْوِ بَائِعٍ أَوْ مُشْتَرٍ فِيهَا شَيْئًا لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مُرِيدُ أَخْذِهَا مَا أَخَذَهَا بِذَلِكَ الْمُقَابِلِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهُ بِهِ لِيَدْخُلَ فِي أَخْذِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ وَغَيْرِهِ مَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يَجِبُ أَيْضًا عَلَى أَجْنَبِيٍّ عَلِمَ بِالسِّلْعَةِ عَيْبًا أَنْ يُخْبِرَ بِهِ مُرِيدَ أَخْذِهَا وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهَا ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا رَأَى إنْسَانًا يَخْطُبُ امْرَأَةً وَيَعْلَمُ بِهَا أَوْ بِهِ عَيْبًا ، أَوْ رَأَى إنْسَانًا يُرِيدُ أَنْ يُخَالِطَ آخَرَ لِمُعَامَلَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوْ قِرَاءَةِ نَحْوِ عِلْمٍ وَعَلِمَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا أَنْ يُخْبِرَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُسْتَشَرْ بِهِ ، كُلُّ ذَلِكَ أَدَاءٌ لِلنَّصِيحَةِ الْمُتَأَكِّدِ وُجُوبُهَا لِخَاصَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ .

هَذَا وَقَدْ سَأَلْنَا عَنْ سُؤَالٍ طَوِيلٍ فِيهِ ذِكْرُ أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ أَحْبَبْت ذِكْرَهُ هُنَا لِعُمُومِ ضَرَرِ مَا فِيهِ مِمَّا أَلِفَه وَيَفْعَلُهُ مَنْ لَا دِينَ لَهُ لِغَفْلَتِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوَامِرِهِ ، وَهُوَ : قَدْ اُعْتِيدَ الْآنَ أَنَّ بَعْضَ التُّجَّارِ يَشْتَرِي الْفِلْفِلَ فِي ظَرْفٍ خَفِيفٍ جِدًّا كَالْخَصْفِ ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ فِي ظَرْفٍ ثَقِيلٍ نَحْوِ خَمْسَةِ أَضْعَافِ الْخَصْفِ لِأَنَّهُ غَالِبًا ثَلَاثَةُ أَمْنَانٍ ، وَذَلِكَ الظَّرْفُ الثَّقِيلُ يُجْمَعُ مِنْ خَيْشٍ حَتَّى يَكُونَ نَحْوَ عِشْرِينَ مَنًّا ، ثُمَّ يُبَاعُ ذَلِكَ الظَّرْفُ وَمَا فِيهِ وَيُوزَنُ جُمْلَةُ الْكُلِّ وَيَكُونُ الثَّمَنُ مُقَابِلًا لِلظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ ، فَهَلْ هَذَا الْفِعْلُ جَائِزٌ أَوْ غِشٌّ مُحَرَّمٌ يُعَزَّرُ فَاعِلُهُ بِمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ ضَرْبٍ وَصَفْعٍ وَطَوَافٍ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ .
وَحَبْسٍ وَأَخْذِ مَالٍ إنْ كَانَ ذَلِكَ مَذْهَبُ ذَلِكَ الْحَاكِمِ ؟ وَهَلْ الْبَيْعُ صَحِيحٌ أَوْ بَاطِلٌ ، وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا فَهُوَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ أَوْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَزْجُرَ التُّجَّارَ وَيَمْنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَيُعَزِّرَ مَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُتَّقِينَ مِنْ التُّجَّارِ إذَا عَلِمُوا مِنْ إنْسَانٍ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَنْ يُخْبِرُوا بِهِ حُكَّامَ الشَّرِيعَةِ أَوْ السِّيَاسَةِ حَتَّى يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْعَ الْأَكِيدَ وَيُعَزِّرُوهُ عَلَيْهِ إنْ أَبَى التَّعْزِيرَ الشَّدِيدَ ؟ وَهَلْ يَجْرِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ نَظَائِرِهَا كَمَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْعَطَّارِينَ وَالتُّجَّارِ أَنَّهُ يُقَرِّبُ بَعْضَ الْأَعْيَانِ إلَى الْمَاءِ فَيَكْتَسِبُ مِنْهُ مَائِيَّةً تَزِيدُ فِي وَزْنِهِ نَحْوَ الثُّلُثِ كَالزَّعْفَرَانِ ، وَبَعْضُهُمْ يَصْطَنِعُ حَوَائِجَ تَصِيرُ كَصُورَةِ الزُّبَّادِ فَيَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ زُبَّادٌ ، وَبَعْضُ الْبَزَّازِينَ يَرْفَأُ الثِّيَابَ رَفْئًا خَفِيًّا ثُمَّ يَبِيعُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ لَك ، وَكَذَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْبُسُطِ وَغَيْرِهَا ، وَبَعْضُهُمْ يَلْبَسُ الثَّوْبَ خَامًا

إلَى أَنْ تَذْهَبَ قُوَّتُهُ جَمِيعًا ثُمَّ يُقَصِّرُهُ حِينَئِذٍ وَيَجْعَلُ فِيهِ نَشًا يُوهِمُ بِهِ أَنَّهُ جَدِيدٌ وَيَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ جَدِيدٌ .
وَبَعْضُهُمْ يَسْعَى فِي إظْلَامِ مَحَلِّهِ إظْلَامًا كَثِيرًا حَتَّى يَصِيرَ الْغَلِيظُ يُرَى رَقِيقًا وَالْقَبِيحُ حَسَنًا .
وَبَعْضُهُمْ يَصْقُلُ بَزَّهُ بِشَمْعٍ صِقَالًا جَيِّدًا حَتَّى لَا تَصِيرَ الرُّؤْيَةُ مُحِيطَةً بِهِ مِنْ كَثْرَةِ ذَلِكَ الشَّمْعِ وَجَوْدَةِ ذَلِكَ الدَّقِّ وَالصِّقَالِ ، وَبَعْضُ الصَّوَّاغِينَ يَخْلِطُ بِالنَّقْدِ نُحَاسًا وَنَحْوَهُ ثُمَّ يَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ كُلُّهُ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ .
وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُ مِمَّنْ يَسْتَأْجِرُ عَلَى صِيَاغَةٍ وَزْنًا مَعْلُومًا فَيَنْقُصُ مِنْهُ نَقْدًا وَيَجْعَلُ بَدَلَهُ نُحَاسًا أَوْ نَحْوَهُ ، وَكَثِيرًا مِنْ التُّجَّارِ وَأَهْلِ الْبَهَارِ وَالْحَبَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ يَجْعَلُ أَعْلَى الْبِضَاعَةِ حَسَنًا وَأَسْفَلَهَا قَبِيحًا ، أَوْ يَخْلِطُ بَعْضَ الْقَبِيحِ فِي الْحَسَنِ حَتَّى يُرَوَّجَ وَيَنْدَمِجَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذَ الْقَبِيحَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ وَلَوْ شَعَرَ بِهِ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا مِنْهُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ الْغِشِّ كَثِيرٌ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا لَكُمْ هَذِهِ الصُّوَرَ لِيُعْلَمَ حُكْمُهَا وَيُقَاسَ عَلَيْهَا مَا لَمْ نَذْكُرْهُ ، وَلَوْ فَتَّشْت الصِّنَاعَاتِ وَالْحَرْفَ وَالتِّجَارَاتِ وَالْبُيُوعَاتِ وَالْعِطَارَاتِ وَالصِّيَاغَاتِ وَالْمُصَارَفَاتِ وَغَيْرِهَا لَوَجَدْت عِنْدَهُمْ مِنْ صُوَرِ الْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ وَالْخِيَانَةِ وَالْمَكْرِ وَالتَّحَيُّلِ بِالْحِيَلِ الْكَاذِبَةِ مَا تَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ وَتَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ ، لِأَنَّنَا نَجِدُهُمْ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ كَرَجُلَيْنِ مَعَهُمَا سَيْفَانِ مُتَقَابِلَانِ فَمَتَى قَدَرَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ قَتْلَهُ لِوَقْتِهِ كَذَلِكَ التُّجَّارُ وَالْمُتَبَايِعُونَ الْآنَ لَا يَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّهُ إنْ ظَفِرَ بِصَاحِبِهِ أَخَذَ جَمِيعَ مَالِهِ بِحَقٍّ وَبَاطِلٍ وَأَهْلَكَهُ وَصَيَّرَهُ فَقِيرًا لِوَقْتِهِ ، وَإِذَا وَقَعَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَرِحَ بِهِ فَرَحًا كَثِيرًا ، وَسَوَّلَتْ

لَهُ نَفْسُهُ الْخَبِيثَةُ أَنَّهُ غَلَبَهُ وَظَفِرَ بِهِ بِمَا غَشَّهُ وَاحْتَالَ عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ إلَى أَنْ اسْتَأْصَلَ مَالَهُ وَظَفِرَ بِهِ كَكَلْبٍ ظَفِرَ بِجِيفَةٍ وَأَكَلَ مِنْهَا حَتَّى لَمْ يُبْقِ مِنْهَا شَيْئًا .
فَهَذَا حَاصِلُ مَا يَقَعُ هُوَ وَأَكْثَرُ مِنْهُ الْآنَ .
فَتَفَضَّلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِبَيَانِ أَحْكَامِ ذَلِكَ حَتَّى يَعْرِفَهَا النَّاسُ ، لِيَصِيرَ مَنْ خَالَفَهَا قَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ وَهَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَمَنْ وَافَقَهَا قَدْ أَسْعَفَتْهُ كَلِمَةُ التَّوْفِيقِ وَأَحْيَا عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَابْسُطُوا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ بَسْطًا شَافِيًا ، فَإِنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ إلَى بَيَانِ أَحْكَامِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَبَعْضَهُمْ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ جَهْلًا بِحُرْمَتِهِ أَثَابَكُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ .
هَذَا حَاصِلُ هَذَا السُّؤَالِ .
وَلَعَمْرِي إنَّهُ حَقِيقٌ أَنْ يُفْرَدَ بِالتَّأْلِيفِ لِسَعَةِ أَحْكَامِهِ وَكَثْرَةِ صُوَرِهِ وَاحْتِيَاجِ النَّاسِ ، بَلْ اضْطِرَارُهُمْ إلَى بَسْطِ الْكَلَامِ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا لِغَلَبَةِ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ عَلَى الْبَاعَةِ حَتَّى لَا يَسْلَمَ مِنْهُمَا إلَّا النَّادِرُ الَّذِي حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لَأَفْرَدْت ذَلِكَ بِتَأْلِيفٍ مُسْتَوْعِبٍ جَامِعٍ لَكِنِّي أُشِيرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى مَا يَنْفَعُ الْمُوَفَّقَ ، وَيُحَذِّرُ الْعَاصِيَ ، وَمَنْ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ هِدَايَتَهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ .
فَأَقُولُ : أَمَّا مَسْأَلَةُ بَيْعِ الظَّرْفِ مَعَ مَا فِيهِ فَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى جَهِلَ وَزْنَ الظَّرْفِ عَلَى انْفِرَادِهِ ، فَبِيعَ مَعَ مَظْرُوفِهِ كُلُّ رِطْلٍ مِنْ الْجُمْلَةِ بِكَذَا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ حَيِّزِ الْغَرَرِ .
وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } ، وَكَذَا لَوْ جَهِلَ وَزْنَ الْمَظْرُوفِ وَحْدَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِلظَّرْفِ قِيمَةٌ لِاشْتِرَاطِ الْعَقْدِ عَلَى بَذْلِ

مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ .
إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ فِيمَا ذُكِرَ أَوَّلَ السُّؤَالِ عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ فِيهِ لِأَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ أَنَّ فَسَقَةَ التُّجَّارِ يَأْخُذُونَ الْفِلْفِلَ مَثَلًا وَيَجْعَلُونَهُ فِي خَيْشٍ مُرَقَّعٍ مِنْ دَاخِلِهِ بِرُقَعٍ كَثِيرَةٍ تُثْقِلُ جُرْمَهُ ، ثُمَّ يَبِيعُونَ ذَلِكَ الْفِلْفِلَ أَوْ نَحْوَهُ مَعَ ظَرْفِهِ كُلُّ مَنٍّ بِعَشَرَةٍ مَثَلًا ، ثُمَّ يَزِنُونَ الظَّرْفَ مَعَ مَظْرُوفِهِ ، فَإِذَا جَاءَتْ الْجُمْلَةُ مِائَةَ مَنٍّ كَانَتْ بِأَلْفٍ .
وَوَجْهُ الْبُطْلَانِ فِي هَذِهِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الظَّرْفَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ وَوَزْنُهُ مَجْهُولٌ بَلْ فِيهِ غِشٌّ وَتَدْلِيسٌ مِنْهُمْ ، لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مِنْ دَاخِلِهِ الْمُمَاسِّ لَهُ الْفِلْفِلُ مَثَلًا رُقَعًا وَنَحْوَهَا مِمَّا يَقْتَضِي وَزْنَهُ فِي الثِّقَلِ وَيَتْرُكُونَ ظَاهِرَهُ عَلَى حَالِهِ الْمُوهِمِ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ خَفِيفُ الْوَزْنِ بِحَيْثُ إنْ رَأَيْته تَقْطَعُ عِنْدَ نَظَرِهِ لِظَاهِرِهِ بِأَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ أَرْبَعَةَ أَمْنَانٍ مَثَلًا ، فَإِذَا خَبَرُوهُ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ وَالنَّظَرِ لِبَاطِنِهِ رَأَوْهُ نَحْوَ عِشْرِينَ مَنًّا ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ لِهَذَا الْغَرَرِ الْعَظِيمِ ، وَهَذَا الْغِشُّ الْبَلِيغُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى خِيَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخِيَانَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمَرَا بِهِ وَنَهَيَا عَنْهُ ، وَكَيْفَ سَاغَ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْدِمُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَيَتْرُكُ مَا جَمَعَهُ مِنْ الْحُطَامِ الْفَانِي لِوَرَثَتِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ ، بَلْ الْغَالِبُ فِي أَوْلَادِ التُّجَّارِ أَنَّهُمْ يُضَيِّعُونَهُ فِي الْمَعَاصِي وَالْقَبَائِحِ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، فَمَنْ هُوَ بِهَذَا الْوَصْفِ كَيْفَ يَبْلُغُ خِدَاعُهُ مَعَ أَخِيهِ إلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ مَالِهِ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ الْبَاطِلَةِ الْكَاذِبَةِ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا فِي السُّؤَالِ لِأَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي هَذِهِ

الْأَزْمِنَةِ كُلٌّ مِنْهُمَا تَصِيرُ أَحْوَالُهُ مَعَ الْآخَرِ كَمُتَقَابِلَيْنِ بِيَدِهِمَا سَيْفَانِ فَمَنْ قَدَرَ مِنْهُمَا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ قَتَلَهُ .
وَهَذَا لَيْسَ بِشَأْنِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا بِقَانُونِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا } .
وَقَوْلُهُ : { الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَشْتُمُهُ وَلَا يَبْغِي عَلَيْهِ } .
وَنَحْنُ لَا نُحَرِّمُ التِّجَارَةَ وَلَا الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ ، فَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَّجِرُونَ فِي الْبَزِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَتَاجِرِ ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَالصُّلَحَاءُ بَعْدَهُمْ مَا زَالُوا يَتَّجِرُونَ وَلَكِنْ عَلَى الْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ وَالْحَالِ الْمَرْضِيِّ الَّذِي أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ قَائِلًا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ التِّجَارَةَ لَا تُحْمَدُ وَلَا تَحِلُّ إلَّا إنْ صَدَرَتْ عَنْ التَّرَاضِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالتَّرَاضِي إنَّمَا يَحْصُلُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غِشٌّ وَلَا تَدْلِيسٌ .
وَأَمَّا حَيْثُ كَانَ هُنَاكَ غِشٌّ وَتَدْلِيسٌ بِحَيْثُ أُخِذَ أَكْثَرُ مَالِ الشَّخْصِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِفِعْلِ تِلْكَ الْحِيلَةِ الْبَاطِلَةِ مَعَهُ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْغِشِّ وَمُخَادَعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَذَلِكَ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ مُوجِبٌ لِمَقْتِ اللَّهِ وَمَقْتِ رَسُولِهِ ، وَفَاعِلُهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ وَالْآتِيَةِ .
فَعَلَى مَنْ أَرَادَ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَسَلَامَةَ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمُرُوءَتِهِ وَعِرْضِهِ وَأُخْرَاهُ أَنْ يَتَحَرَّى لِدِينِهِ ، وَأَنْ لَا يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْبُيُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ ، وَأَنْ يُبَيِّنَ وَزْنَ ذَلِكَ الظَّرْفِ لِلْمُشْتَرِي عَلَى التَّحْرِيرِ وَالصِّدْقِ ، ثُمَّ إذَا بَيَّنَ لَهُ وَزْنَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ

الظَّرْفَ وَالْمَظْرُوفَ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ ، حَتَّى قَالَ الْفُقَهَاءُ لَوْ بَيَّنَ لَهُ ظَرْفَ الْمِسْكِ وَزِنَتَهُ بِأَنْ قَالَ هَذَا الظَّرْفُ عَشَرَةُ أَمْنَانٍ ، وَهَذَا الْمِسْكُ عِشْرُونَ مَنًّا ، وَبِعْتُك هَذِهِ الثَّلَاثِينَ مَنًّا بِأَلْفٍ .
فَاشْتَرَى بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَالتَّقْلِيبِ جَازَ هَذَا الْبَيْعُ ، وَكَانَ بَيْعًا مَبْرُورًا لِسَلَامَتِهِ مِنْ سَائِرِ وُجُوهِ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالتَّدْلِيسِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ وَزْنَ الظَّرْفِ وَوَزْنَ الْمِسْكِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ الْمَنَّ مِنْ الْجَمِيعِ بِأَلْفٍ أَوْ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَإِنَّمَا النَّارُ الْمَوْقُودَةُ وَالْقَبِيحَةُ الْمُهْلِكَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ عَمَّنْ يُدَلِّسُ فِي الظَّرْفِ فَيَجْعَلُهُ بِصُورَةِ خَفِيفٍ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ ثَقِيلٌ جِدًّا فِي نَفْسِهِ .
ثُمَّ يَبِيعُ الْكُلَّ بِثَمَنٍ وَسِعْرٍ وَاحِدٍ مَعَ جَهْلِ الْمُشْتَرِي بِظَنِّهِ ، وَكَوْنِ الْبَائِعِ تَحَيَّلَ عَلَيْهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ وَزْنَهُ يَسِيرٌ وَالْحَالُ أَنَّهُ كَثِيرٌ .
هَذَا حَاصِلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَعْنِي بَيْعَ الظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ فِي صُوَرِ الْغِشِّ الْكَثِيرَةِ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي لَا يُحْكَى نَظِيرُهَا عَنْ الْكُفَّارِ فَضْلًا عَنْ الْمُؤْمِنِينَ ، بَلْ الْمَحْكِيُّ عَنْ الْكُفَّارِ لَعَنَهُمْ اللَّهُ أَنَّهُمْ يَتَّجِرُونَ فِي بِيَاعَاتِهِمْ وَلَا يَفْعَلُونَ فِيهَا ذَلِكَ الْغِشَّ الْكَثِيرَ الظَّاهِرَ الْمَحْكِيَّ فِي السُّؤَالِ ، فَذَلِكَ أَعْنِي مَا حُكِيَ مِنْ صُوَرِ ذَلِكَ الْغِشِّ الَّتِي يَفْعَلُهَا التُّجَّارُ وَالْعَطَّارُونَ وَالْبَزَّازُونَ وَالصَّوَّاغُونَ وَالصَّيَارِفَةُ وَالْحَيَّاكُونَ ، وَسَائِرُ أَرْبَابِ الْبَضَائِعِ وَالْمَتَاجِرِ وَالْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ كُلُّهُ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ مُوجِبٌ لِصَاحِبِهِ أَنَّهُ فَاسِقٌ غَشَّاشٌ خَائِنٌ يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ، وَيُخَادِعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَا يُخَادِعُ إلَّا نَفْسَهُ ، لِأَنَّ عِقَابَ ذَلِكَ لَيْسَ إلَّا عَلَيْهِ .
وَكَثْرَةُ ذَلِكَ

تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الزَّمَانِ وَقُرْبِ السَّاعَةِ ، وَفَسَادِ الْأَمْوَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ ، وَنَزْعِ الْبَرَكَاتِ مِنْ الْمَتَاجِرِ وَالْبِيَاعَاتِ وَالزِّرَاعَاتِ ، بَلْ وَمِنْ الْأَرَاضِيِ الْمَزْرُوعَاتِ ، وَتَأَمَّلَ قَوْلَهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ الْقَحْطُ أَنْ لَا تُمْطَرُوا ، وَإِنَّمَا الْقَحْطُ أَنْ تُمْطَرُوا وَلَا يُبَارَكُ لَكُمْ فِيهِ } : أَيْ بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْقَبَائِحِ وَالْعَظِيمَاتِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا فِي تِجَارَاتِكُمْ وَمُعَامَلَاتِكُمْ وَلِهَذِهِ الْقَبَائِحِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا التُّجَّارُ وَالْمُتَسَبَّبُونَ وَأَرْبَابُ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الظَّلَمَةَ فَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، وَهَتَكُوا حَرِيمَهُمْ ، بَلْ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارَ فَأَسَرُوهُمْ وَاسْتَعْبَدُوهُمْ ، وَأَذَاقُوهُمْ الْعَذَابَ وَالْهَوَانَ أَلْوَانًا ، وَكَثْرَةُ تَسَلُّطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْحَرِيمِ إنَّمَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ لَمَّا أَنْ أَحْدَثَ التُّجَّارُ وَغَيْرُهُمْ قَبَائِحَ ذَلِكَ الْغِشِّ الْكَثِيرَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَعَظَائِمِ تِلْكَ الْجِنَايَاتِ وَالْمُخَادَعَاتِ وَالتَّخَيُّلَاتِ الْبَاطِلَةِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِأَيِّ طَرِيقٍ قَدَرُوا عَلَيْهَا ، لَا يُرَاقِبُونَ اللَّهَ الْمُطَّلِعَ عَلَيْهِمْ ، وَلَا يَخْشَوْنَ سَطْوَةَ عِقَابِهِ وَمَقْتِهِ ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْمِرْصَادِ : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } وَ { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } .
وَلَوْ تَأَمَّلَ الْغَشَّاشُ الْخَائِنُ الْآكِلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مَا جَاءَ فِي إثْمِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لَرُبَّمَا انْزَجَرَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِقَابِهِ إلَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ مِنْ حَرَامٍ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ }

.
وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } .
{ وَقَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ رَجُلٍ أَوْ صَلَاتَهُ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مِنْ حَرَامٍ } .
{ وَقَوْلُهُ : مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِيهَا دِرْهَمٌ مِنْ حَرَامٍ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ صَلَاةً مَا دَامَ عَلَيْهِ } .
وَقَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إلَّا مَنْ يُحِبُّ ، وَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ ، وَلَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ .
قَالُوا وَمَا بَوَائِقُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : غِشُّهُ وَظُلْمُهُ } .
{ وَقَوْلُهُ : لَا تُزَالُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ ؟ } .
{ وَقَوْلُهُ : مَنْ اكْتَسَبَ فِي الدُّنْيَا مَالًا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ أَوْرَدَهُ دَارَ الْهَوَانِ ، ثُمَّ رُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِي مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ اللَّهُ { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } } .
{ وَقَوْلُهُ : يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأُنَاسٍ مَعَهُمْ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ حَتَّى إذَا جِيءَ بِهِمْ جَعَلَهَا اللَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ثُمَّ يَقْذِفُ بِهِمْ فِي النَّارِ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : كَانُوا يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ ، غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْحَرَامِ أَخَذُوهُ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } .
فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ أَيُّهَا الْمَاكِرُ الْمُخَادِعُ الْغَشَّاشُ الْآكِلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِتِلْكَ الْبُيُوعَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالتِّجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ ، تَعْلَمْ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَك وَلَا زَكَاةَ وَلَا صَوْمَ وَلَا حَجَّ كَمَا جَاءَ عَنْ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الَّذِي

لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ، وَلْيَتَأَمَّلْ الْغَشَّاشُ بِخُصُوصِهِ قَوْلَهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } يَعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ الْغِشِّ عَظِيمٌ ، وَأَنَّ عَاقِبَتَهُ وَخِيمَةٌ جِدًّا فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَدَّتْ إلَى الْخُرُوجِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ لَيْسَ مِنَّا إلَّا فِي شَيْءٍ قَبِيحٍ جِدًّا يُؤَدِّي بِصَاحِبِهِ إلَى أَمْرٍ خَطِيرٍ وَيُخْشَى مِنْهُ الْكُفْرُ ، فَإِنَّ لَمَنْ يُعَرِّضُ دِينَهُ إلَى زَوَالٍ وَيَسْمَع قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا } ، وَلَا يَنْتَهِي عَنْ الْغِشِّ إيثَارًا لِمَحَبَّةِ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ وَرِضًا بِسُلُوكِ سَبِيلِ الضَّالِّينَ .
وَلْيَتَأَمَّلْ الْغَشَّاشُ أَيْضًا لَا سِيَّمَا التُّجَّارُ وَالْعَطَّارُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَجْعَلُ فِي بِضَاعَتِهِ غِشًّا يَخْفَى عَلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى يَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ ، وَلَوْ عَلِمَ ذَلِكَ الْغِشَّ فِيهِ لَمَا اشْتَرَاهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ أَصْلًا .
مَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا مَرَّ : أَنَّهُ { مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ صُبْرَةٌ مِنْ حَبٍّ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ أَدْخِلْ يَدَك فِيهِ فَفَعَلَ فَأَحَسَّتْ يَدُهُ الشَّرِيفَةُ بِبَلَلٍ فِي بَاطِنِ تِلْكَ الصُّبْرَةِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ وَقَالَ مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَهُ مَطَرٌ ، قَالَ أَفَلَا جَعَلْت الْمُبْتَلَّ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَرَّ بِطَعَامٍ وَقَدْ حَسَّنَهُ صَاحِبُهُ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَإِذَا طَعَامٌ رَدِيءٌ جَعَلَهُ أَسْفَلَهُ ، فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِعْ هَذَا عَلَى حِدَةٍ وَهَذَا عَلَى حِدَةٍ ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْحَبِّ وَأَخْرَجَ مِنْهُ الْمَبْلُولَ قَالَ لَهُ : مَا حَمَلَك عَلَى

هَذَا أَيْ جَعْلِك الْمُبْتَلَّ أَسْفَلَ وَالْجَافَّ فَوْقَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّهُ لَطَعَامٌ وَاحِدٌ قَالَ : أَفَلَا عَزَلْت الرَّطْبَ عَلَى حِدَتِهِ وَالْيَابِسَ عَلَى حِدَتِهِ فَيَتَبَايَعُونَ مَا يَعْرِفُونَ ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ } ، وَسَبَقَتْ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ خَلَطَ اللَّبَنَ بِالْمَاءِ ثُمَّ بَاعَهُ : خَلِّصْ الْمَاءَ مِنْ اللَّبَنِ ، أَيْ وَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيُوا مَا صَوَّرْتُمْ : أَيْ اُنْفُخُوا الرُّوحَ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي كُنْتُمْ تُصَوِّرُونَهَا فِي الدُّنْيَا تَحْقِيرًا لَهُمْ وَإِذْلَالًا وَبَيَانًا لِعَجْزِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَذَلِكَ مَنْ خَلَطَ اللَّبَنَ بِالْمَاءِ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : خَلِّصْ اللَّبَنَ مِنْ الْمَاءِ تَحْقِيرًا لَهُ وَفَضِيحَةً لَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ جَزَاءً عَلَى غِشِّهِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ فِي الدُّنْيَا ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْغَشَّاشِينَ يَفْضَحُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي مُقَابَلَةِ غِشِّهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَلْيَتَأَمَّلْ الْغَشَّاشُونَ أَيْضًا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا إلَّا بَيَّنَ مَا فِيهِ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بَيَّنَهُ } ، وَقَوْلُهُ : { مَنْ بَاعَ عَيْبًا وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللَّهِ أَوْ لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ } .
وَقَوْلُهُ : { الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ نَصَحَةٌ وَادُّونَ وَإِنْ بَعُدَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ ، وَالْفَجَرَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ غَشَشَةٌ مُتَخَاوِنُونَ وَإِنْ اقْتَرَبَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ } .
وَالْأَحَادِيثُ فِي الْغِشِّ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ كَثِيرَةٌ مَرَّ مِنْهَا جُمْلَةٌ ، فَمَنْ تَأَمَّلَهَا وَوَفَّقَهُ اللَّهُ لِفَهْمِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا انْكَفَّ عَنْ الْغِشِّ وَعَلِمَ عَظِيمَ قُبْحِهِ وَخَطَرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ

لَا بُدَّ وَأَنْ يَمْحَقَ مَا حَصَّلَهُ الْغَاشُونَ بِغِشِّهِمْ ، كَمَا سَبَقَ فِي قِصَّةِ الْقِرْدِ وَالثَّعْلَبِ أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَهُمَا عَلَى غَشَّاشَيْنِ فَأَذْهَبَا جَمِيعَ مَا حَصَّلَاهُ بِالْغِشِّ بِرَمْيِهِ فِي الْبَحْرِ .
وَمَنْ تَأَمَّلَ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ عَلِمَ أَيْضًا أَنَّ أَكْثَرَ مَا حُكِيَ فِي السُّؤَالِ مِنْ جُمْلَةِ الْغِشِّ الْمُحَرَّمِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَدْخَلَ يَدَهُ الْكَرِيمَةَ فِي الْحَبِّ وَرَأَى الْمُبْتَلَّ أَسْفَلَهُ أَنْكَرَ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ : هَلَّا جَعَلْت الْمُبْتَلَّ وَحْدَهُ وَبِعْته وَحْدَهُ وَالْيَابِسَ وَحْدَهُ وَبِعْته وَحْدَهُ ، أَوْ جَعَلْت الْمُبْتَلَّ فِي ظَاهِرِ الْحَبِّ حَتَّى يَعْرِفَهُ النَّاسُ وَيَشْتَرُوهُ عَلَى بَصِيرَةٍ } وَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ بِسِلْعَتِهِ عَيْبًا وَجَبَ عَلَيْهِ وُجُوبًا مُتَأَكَّدًا بَيَانُهُ لِلْمُشْتَرِي ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ الْعَيْبَ غَيْرُ الْبَائِعِ كَجَارِهِ وَصَاحِبِهِ وَرَأَى إنْسَانًا يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَيْبَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا إلَّا بَيَّنَ مَا فِيهِ ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بَيَّنَهُ } وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَهْتَدُونَ لِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ ، يَمُرُّ الشَّخْصُ مِنْهُمْ فَيَرَى رَجُلًا غِرًّا يُرِيدُ شِرَاءَ شَيْءٍ فِيهِ عَيْبٌ وَهُوَ لَا يَدْرِيهِ فَيَسْكُتُونَ عَنْ نُصْحِهِ حَتَّى يَغُشَّهُ الْبَائِعُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ بِالْبَاطِلِ ، وَمَا دَرَى السَّاكِتُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ شَرِيكُ الْبَائِعِ فِي الْإِثْمِ وَالْحُرْمَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَالْفِسْقِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ، وَهُوَ أَنَّ الْغَاشَّ الَّذِي لَمْ يُبِنْ الْعَيْبَ لِلْمُشْتَرِي لَا يَزَالُ فِي مَقْتِ اللَّهِ أَوْ لَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }
.

Tidak ada komentar:

Posting Komentar

Qonun Asasi Nahdlatul 'Ulama

  MUQODDIMAH_QONUN_ASASI_NU (Pendahuluan Fondasi Dasar Jam'iyyah NU)   Jam'iyyah Nahdhotul 'Ulama' mempunyai garis...